كتب إيلي الفرزلي في "الأخبار":
حساب سلفات الخزينة الذي دققه ديوان المحاسبة عيّنة من طريقة إدارة الدولة. منذ العام 1995 حتى اليوم، لم تقم السلطة سوى بمخالفة القانون. كل شرط أو بند يفرضه القانون تعمل عكسه. الإدارات الرسمية تحصل على سلف خلافاً للقانون، مؤسسات عامة تحصل على سلف بالرغم من أنها غير قادرة على التسديد، حتى الموازنة العامة حلّت محلها سلف الخزينة. الأسباب عديدة، لكن أبرزها التذاكي لإخفاء العجز الحقيقي للموازنة. أما النتيجة، فـ5.5 مليارات دولار لم تسدد حتى العام 2018.
عندما يشير التقرير الصادر عن ديوان المحاسبة في شباط الماضي إلى أن قيمة سلف الخزينة غير المسددة منذ العام 1995 حتى نهاية 2018، بلغت 7991 مليار ليرة، أي ما يعادل 5.5 مليارات دولار، فإن ذلك يمكن أن يعطي صورة سريعة عن واحد من الأسباب التي أدت إلى الانهيار: أداء السلطة. الحكومات المتعاقبة، ومن خلفها مجلس النواب، لم تكن تتعامل مع المواد الدستورية والقانونية بوصفها واجبة التطبيق. هي كانت بالحد الأقصى تستأنس بها، تمهيداً لإيجاد الطريق «الأقصر» لتخطيها ومخالفتها. التقرير لا يتناول الفترة ما بعد 2018، ببساطة لأنه يعتمد على المستندات التي تصله من وزارة المالية. والأخيرة، مع انتهاء إعداد التقرير، لم تكن قد أرسلت قطع حساب العام 2019، بالرغم من أنه واجب التصديق من الديوان قبل إقرار موازنة 2021 (أرسل في ١٥ نيسان الحالي)… إذا وجد من يهتم بإقرارها. وعليه، فإن التقديرات تشير إلى أن المبلغ الفعلي غير المُسدّد يُقارب عشرة آلاف مليار ليرة حتى نهاية 2019، وصولاً إلى نحو 12 ألف مليار ليرة في نهاية العام 2020.
أين ذهبت هذه الأموال؟ ولماذا لم تسدد؟ ولماذا لم تعمد وزارة المالية، المسؤولة قانوناً عن ملاحقة هذه السلف، إلى استردادها أو على الأقل إلى القيام بالإجراءات القانونية اللازمة لإنهاء هذه الحالة الشاذة؟ الأجوبة عديدة، لكن أبرزها أن كل مرسوم أو قرار نصّ على إعطاء سلفة لأي جهة، كان يتضمن في طيّاته تواطؤاً وإقراراً مسبقاً بأن ما يسمى سلفة ليس سوى إنفاق فعلي لن تسترده الخزينة. اللافت أن الإعفاء من التسديد ورد أحياناً بشكل صريح في مراسيم، لم يستَحِ من أصدرها من مخالفتها قانون المحاسبة العمومية بشكل فج، كما لم يتردد في التغاضي عن الموجب القانوني الذي ينص على أن أي إعفاء يحتاج إلى قانون يجيزه.
النهج الثابت للسلطة كان التركيز على إخفاء المعلومات الحقيقية عن الداخل والخارج على السواء. ولذلك، فإن الكثير من النفقات العامة دُفعت عبر سلف خزينة، بدلاً من إدراجها في اعتمادات الموازنة. من فعل ذلك أراد إظهار قيمة مزيفة للعجز. فالسلف لا تدخل ضمن الإنفاق العام. وهذا أثّر على النتيجة النهائية للدورة المالية وزاد قيمة العجز التراكمي.
القانون وضع ليُخرق
التقرير الذي أعدّته الغرفة المختصة في الديوان برئاسة القاضية نيللي أبي يونس، وقدم رئيس الديوان محمد بدران نسخة منه إلى رئيس الجمهورية، هو شهادة رسمية للسلطة، منذ التسعينيات حتى اليوم، منذ رفيق الحريري حتى سعد الحريري، تثبت أن الحكم بالنسبة إليها ليس سوى وسيلة للتربّح والمحاصصة والغش والإيحاء بأن الأمور تحت السيطرة. وفي سبيل ذلك لم تقم سوى بانتهاك القوانين والتلاعب بمالية الدولة، والاعتداء على كل مبادئ المحاسبة العمومية وإصدار موازنات شكلية، إن أصدرتها، لا تُعبّر عن حقيقة الوضع المالي.
حساب السلفات هو عينة وقحة من كل ذلك. يكاد التقرير يؤكد أن كل السلف التي أعطيت لم تراع القانون، لا بالنسبة إلى تقديمها ولا بالنسبة إلى إيفائها.
تشير المادة 203 من قانون المحاسبة العمومية إلى أن سلفات الخزينة هي إمدادات تعطى من موجودات هذه الخزينة لغايات محددة حصراً:
• تموين مستودعات الإدارات العامة بلوازم مشتركة بين أكثر من إدارة واحدة.
• شراء مواد قابلة للتخزين معدّة للاستعمال في سنة مالية جارية أو لاحقة.
• تغذية صناديق المؤسسات العامة والبلديات وكذلك الصناديق المستقلة المنشأة بقانون.
حصر السلفات بوجهات الاستعمال هذه، أراده المشرّع، في الحالة الأولى، لتوحيد اللوازم بين مختلف الإدارات، بما يحول دون التفاوت فيما بين الإدارات ودون تجزئة الكميات، وبالتالي الاستحصال على السعر الأنسب والمواصفات الأنسب.
وفي الحالة الثانية، تمّت مراعاة الحاجة الطارئة لمواد أساسية مثل القمح والمشتقات النفطية، وربما بعض أصناف الأدوية واللقاحات...
أما في الحالة الثالثة، فالمقصود هو تأمين السيولة لهذه الصناديق عندما تعجز عن القيام بعمليات الدفع المطلوبة منها.
ليس صعباً تبيّن أن المبالغ المعطاة بموجب بعض المراسيم والقرارات لا تدخل ضمن الغايات التي أجازها القانون. ولأنه كان يُفترض إدراجها ضمن اعتمادات الموازنات لكونها نفقات عامة، فإن عدم القيام بذلك، هو مخالفة صريحة ومتمادية للقانون.
في النتيجة، فإن السلفات التي أعطيت لغير الغايات المحددة قانوناً، يمكن توزيعها بحسب التالي:
• سلفات لتغطية رواتب وأجور وتعويضات، كما حصل مع وزارة الإعلام التي حصلت على سلف خزينة عديدة لدفع تعويضات الصرف من الخدمة للعاملين في تلفزيون لبنان، حيث نصت هذه المراسيم على أن يتم تسديد السلفات إما نقداً أو من اعتماد يلحظ في الموازنة. أولاً يشير الديوان إلى أن أحكام الفقرتين الأولى والثانية لا تنطبقان على هذه الحالة (شراء لوازم مشتركة أو شراء مواد استراتيجية)، وبالتالي كان الأجدى تطبيق أحكام الفقرة الثالثة وإعطاء السلفة مباشرة إلى تلفزيون لبنان. لكن ذلك لم يحصل أيضاً، لأن المادة 204 من قانون المحاسبة العمومية تشترط، لتسليف المؤسسات العامة، أن يتثبّت وزير المالية من قدرة الجهة المستلفة على إعادة السلفة نقداً في المهلة المحددة، وأن تتعهد الجهة المستلفة برصد الاعتمادات اللازمة لتسديد السلفة إجبارياً في موازنتها، وأن توافق السلطة التشريعية إذا كانت مهلة التسديد تتجاوز 12 شهراً. ولأنه يصعب تنفيذ هذه المادة، كان «الحل» بالالتفاف عليها وعلى المادة التي سبقت من خلال إعطاء سلفة خزينة لإدارة عامة غير مستحقة بهدف تحويلها إلى مؤسسة عامة غير قادرة على الدفع!
• إعطاء سلفات خزينة لتغطية نفقات عامة: لأن الموازنة لم تقر منذ العام ٢٠٠٥ (حتى العام ٢٠١٧)، اصطدمت السلطة في العام ٢٠١٠، بعدم القدرة على الاستمرار بالصرف على القاعدة الاثني عشرية (المخالفة للقانون)، بسبب ازدياد حجم الإنفاق. لذلك اتفق على إعطاء الإدارات سلف خزينة لتأمين نفقاتها التي تتجاوز القاعدة الاثني عشرية المرصودة في موازنة العام 2005 (نحو عشرة آلاف مليار ليرة)، على أن تحدد قواعد وأصول تسديد السلفات بقانون خاص تصدره لاحقاً السلطة التشريعية. وقد أحصى ديوان المحاسبة 26 مرسوم سلفة صدر بين تشرين الثاني 2011 وأيار 2012 الغاية منها رفع معدل الإنفاق لدى الإدارات والمؤسسات العامة.
طبعاً لم تستند هذه السلف إلى أي نص قانوني، بل استندت إلى مشروع قانون لفتح اعتماد إضافي لم يقره مجلس النواب حتى! وبدلاً من إقرار قانون الاعتماد الإضافي أو إقرار موازنة 2012، لجأت الحكومة إلى إصدار سلفة شاملة في 15/6/2012 قضى بإعطاء وزارة المالية سلفة خزينة بقيمة 10 آلاف و394 مليار ليرة لتغطية نفقات الإدارات العامة للعام 2012. وبقيت الحال هكذا إلى أن صدر القانون 238 بتاريخ 22/10/2012 الذي قضى بفتح اعتماد إضافي بقيمة 9 آلاف و248 مليار ليرة. ونص القانون على أن تخصص المبالغ المحددة لتسديد جزء من السلفة الممنوحة لوزارة المالية، لكن لم يجر تحديد الجزء الذي نص القانون على تسديده. لذلك، بالرغم من صدور القانون، لم يسدّد بعض السلفات بالكامل.
• إعطاء سلفات خزينة لتغطية تعويضات ومستحقات: وهو ما حصل، على سبيل المثال في العام 2007، عندما أعطيت وزارة العدل سلفة خزينة بقيمة 7.5 مليارات ليرة لتسديد نفقات المحكمة الدولية الخاصة باغتيال الرئيس رفيق الحريري، أو السلفة التي أعطيت لوزارة الاقتصاد في العام 2016، بقيمة 15 مليار ليرة، لغاية دفع تعويضات، على أن تسدد من اعتمادات تلحظ في الموازنة، لكنها لم تسدد منها سوى 4 مليارات ليرة.
التسديد ليس مهماً
وفقاً لأحكام المادة 209 من قانون المحاسبة العمومية، يفترض أن تسدد السلفات الممنوحة إلى الإدارات العامة بموجب حوالات دفع صادرة على الموازنة. كما يُفترض أن تسدد السلفات الممنوحة لمؤسسات عامة نقداً ضمن المهلة المحددة. وعلى المحتسب المركزي أن يُلاحق تسديد السلفات وفقاً للشروط التي أعطيت بموجبها. وله أن ينفّذ بحق القيّم على السلفة أي تدبير قانوني يؤمن استرداد هذه المبالغ.
ونتيجة التدقيق، تبين أن معظم المراسيم نصّت على أن يكون التسديد بموجب قوانين خاصة تصدر لاحقاً، لكنها لم تصدر، أو من خلال اعتمادات ترصد في مشاريع الموازنات العامة التي لم تصدر أيضاً. فبقي رصيد السلفات المعطاة عالقاً من دون تسديد، علماً بأن بعض المراسيم اختصر الطريق ونص على أن السلفة غير قابلة للتسديد أو أن الجهة المستلفة معفاة من التسديد (سلف تتعلق بتسديد مساهمات لبنان في صندوق النقد الدولي وزيادة المساهمة في الوكالة المتعددة الأطراف لضمان الاستثمار…)!
كل الخيارات التي اعتمدت مخالفة للقانون ولشروط إعطاء السلف وتحديد طرق تسديدها. وبالتالي، فإن الإصرار على هذه المخالفات أدى إلى ابتداع وسائل غير قانونية لتبرير إعطاء السلف لمن لا تنطبق عليهم الشروط القانونية. ولذلك، فإن لائحة المؤسسات والإدارات التي حصلت على سلف ولم تسددها حتى نهاية 2018، تطول وتتشعب لتشمل: الهيئة العليا للإغاثة، المعهد الوطني للموسيقى، الصندوق المركزي للمهجرين، المصرف الوطني للإنماء الصناعي، الجامعة اللبنانية، تلفزيون لبنان، تعاونية موظفي الدولة، المديرية العامة للحبوب والشمندر، هيئة إدارة السير، مؤسسة مياه البقاع، مؤسسة إليسار، مؤسسة كهرباء لبنان، مصلحة سكك الحديد، مصلحة استثمار مرفأ صيدا، المستشفيات الحكومية، مجلس تنفيذ المشاريع الإنشائية، مجلس الجنوب، مجلس الإنماء والإعمار، مؤسسة مياه لبنان الشمالي، مؤسسة مياه لبنان الجنوبي، المؤسسة الوطنية للاستخدام، المؤسسة الوطنية لضمان الاستثمارات، المؤسسة العامة للإسكان، مؤسسة إيدال.
في المقابل، فإن 4 مؤسسات وإدارات فقط هي التي أظهر ميزان خروج 2018 أنها سدّدت كل السلف التي حصلت عليها، هي: قوى الأمن - السجون، الأمن العام، وزارة الأشغال ووزارة الدفاع.
كهرباء لبنان: الحصة الأكبر من السلف غير المسددة
ما بين العام 1995 والعام 2017 أحصى ديوان المحاسبة عدم تسديد سلف خزينة بقيمة إجمالية بلغت 5.3 آلاف مليار ليرة، إلا أن هذا المبلغ تضخم في العام 2018 ليصل إلى 8 آلاف مليار ليرة. السبب الأساسي لهذه الزيادة التي تخطّت ٥٠ في المئة من رصيد السلف حتى نهاية ٢٠١٧ (٢٨٠٠ مليار ليرة)، كان إعطاء مؤسسة كهرباء لبنان سلفة بقيمة ٢٧٠٠ مليار ليرة لتغطية الارتفاع الكبير في أسعار النفط في ذلك العام، علماً بأن ذلك العام سجّل أعلى نسبة سلف خزينة لم تُسدّد (34 في المئة) ويليها العام 2005 (11 في المئة) وعام 2000 وعام 2009 بنسبة 7 في المئة لكل منهما.
وكما كان متوقعاً، فإن مؤسسة كهرباء لبنان حصلت على النسبة الأعلى للقيم الإجمالية غير المسددة، إذ بلغت هذه النسبة نحو 70 في المئة (5.5 آلاف مليار ليرة)، حتى نهاية العام 2018، تليها الهيئة العليا للإغاثة بنسبة 12 في المئة (980 مليار ليرة)، ثم مجلس الإنماء والإعمار بنسبة 8 في المئة (651 مليار ليرة).
وبالرغم من أن مؤسسة كهرباء لبنان تحتل المرتبة الأولى في عدم تسديد سلف الخزينة، إلا أن المبلغ الإجمالي يبقى غير معبّر عن الكلفة التي تكبّدتها الخزينة لتغطية احتياجات المؤسسة من الفيول. ويعود ذلك إلى أن سلف الخزينة لم تكن الخيار الوحيد لتغطية هذه النفقات. فقد سبق أن أقرّت لها الأموال عبر اعتمادات في الموازنة أو مساهمات من الخزينة، كما كان يُطلب أحياناً من مصرف لبنان الدفع مباشرة، خلافاً للقانون. فقد تبيّن أن نحو ٢٧ ألف مليار أعطيت للكهرباء من دون حوالات صرف على الموازنة، بل بطلبات مباشرة إلى مصرف لبنان، الذي كان يكتفي بدفع المبلغ، وإعلام وزارة المالية بذلك، فيما الأخيرة تقوم بتسجيل هذه المبالغ في قيود مؤقتة للصرف.
حينها، لم يكن رياض سلامة يعترض. ببساطة، لأن الأمر كان يناسبه ويناسب المصارف، التي تحقق أرباحاً هائلة من إقراض الدولة. لكن عندما تعطلت الماكينة، لم يجد سوى القانون ليحتمي به من التدقيق الجنائي على سبيل المثال، متحجّجاً بالحرص على التقيد بالقانون، ومتغاضياًَ عن كل الفتاوى القانونية التي أكدت أن التدقيق لا يخالف قانون السرية المصرفية.