كتب زياد الصائغ في موقع mtv:
لَم يخَف صديقي لقمان لحظة. كان يُدرك حجم الظَّلام والظُّلم اللّذَين يتربّصان به، لكنَّ انكبابه بتصميم هائل على تعميم النّور وإحقاق العدالة كان أفعَل. آمن لقمان بأنَّ توثيق موبقات الاستبداد المُستنِد إلى أيديولوجيّات قتل الفِكر الحرّ، وانتهاك الحقوق، وتشويه التَّاريخ، وتطويع الجغرافيا، وسَجن الدِّيموغرافيا، كلّه من فعلٍ شيطانيّ. ما كانت تعنيه العقائديّات الدينيّة هنا، وكم كُنَّا نتحاور في هذه، ما كانت تعنيه سوى بقدر مساهمتها في أنسنة الإنسان، وفي ذلك كان كثيف المقاربات الفلسفيّة الذاتيّة.
لَم يتردّد صديقي لقمان لحظة في اعتماد خيار تصويب المفاهيم وتصويب المسارات، بعد تمحيصها وتنقيتها من شوائب الجَهل، والتَّعمية، والتَّلاعب الجينيّ، والتّأويل الديماغوجيّ، والاستنساخ الانتهازيّ، و"المقاربة الخنفشاريّة" على ما كان يردِّد دوماً في حواراتنا.
لم يُبسِّط صديقي لقمان لحظة التعقيدات البنيويّة في ما واجهه ويواجهه وقد يواجهه لبنان على كلّ المستويات السياديّة، والسياسيّة، والدّستوريّة، والاقتصاديّة - الاجتماعيّة، لكنّه آثر الغوص في الاختناق الثّقافيّ وخوائِه، وفي مسبِّبات هذه التعقيدات عِوض الانخراط في تفصيلاتها السطحيّة. شكَّل مخزون الذاكرة له في ارتداداته السيكولوجيّة همّاً مؤسِّساً. هنا مكمَن مقاربة الزنزانة التي نحن ضحاياها بكلّ نتانتها، لكن بكلّ قدرتها على تأطير النضال في منسلكات بناء الحريّة، مع تفهّم حالات الّلجوء والنّزوح المرحليّة،
القسريّ منها والطّوعيّ.
لم ينسحب صديقي لقمان لحظة من الميدان النضاليّ، نصب في ثورة 17 تشرين خيمته الفكريّة من باب أنَّ التغيير عقلٌ بموازاة كونه حركة في الشارع. ذهب إلى عمق الانتلجنسيا في كلّ مكوّناتها. بادَر بالنُصح، واقتحم حتى بالزّجر والتأنيب. رؤيته الثّاقبة في أنَّ النموذج اللبنانيّ التعدّديّ بات يحتاج مداميك تتناقض مع حِلف الفساد - الترهيب لم تأتِ وليد لحظة انطلاقة الثورة، بل أسّس لها بهدوء تراكميّ من باب مسار "السّلامُ عليكم: نزاعات لبنان في محاولات إنهائها". كان الإقليم وانفلاتاته في هذا المسار من باب أذيّته للبنان في صميم النقاش. الإقليم المُستباح من أحلاف موضوعيّة بين الأقلويّة والعنصريّة، والثيوقراطيّة، والتوتاليتاريّة. لبنان العربيّ الانتماء والدَّوليّ الامتداد واللبنانيّ الهويّة رفَع رايته. لبنان اللبنانيّ في التزامه الإنسانوي، وفي هذا يلاقي بالعمق الآباء الفكريّين المؤسّسين للبنان، دون إقصاء التنوّع الأيديولوجي الذي طبع مدارسه السياسيّة في مندرجاتها الفلسفيّة.
في إحدى رسائله الأخيرة لي، وقد تعذّر عليّ الإجابة على اتصاله حينها، وقبل أن أعاوِد مهاتفته وعند قراءتها أحسست أنه مثابرٌ لكنه يستشعِر تعباً ما، كتب لي: "آمل أن تكون على ما يرام، أو أقلّه مقدار ما يسمح هذا البلد الشّاق للمرء أن يكون". وحين تحادثنا كان نبضه دوماً زاخِراً بالأمل مُتهيِّباً الموقف، لكن حاثاً على تعميق التفكير في ما هو مقبِلٌ إلينا ومنهجيّة مقاربته إنقاذيّاً.
صديقي لقمان،
هذا البلد الشّاق الذي أحببت وشعبه الطيّب الجريء الصّامد سيستمرّ في النّضال ولا تراجع. الأحرار، وأنتَ مثالٌ فيهم يرتحِلون ولا يموتون... سلِّم على شهداء الحريّة والحقّ!