كتبت زينب حمّود في "الأخبار":
هل المنتجات الزراعية في 56 قرية جنوبية يطاولها قصف العدوّ الإسرائيلي بالقذائف الفوسفورية صالحة للاستهلاك؟ سؤال قد يبدو عبثياً في ظل استمرار الحرب وصعوبة الوصول إلى هذه المنتجات. لكن غياب إجابة علمية واضحة عنه، وتضارب آراء «المتخصّصين» حول أثر الفوسفور، يثير الهلع حول مصير المحاصيل في اليوم الأول بعد الحرب، ويدفع عدداً من المزارعين الصامدين وممّن يتردّدون إلى أراضيهم إلى رمي محاصيلهم أو تكبّد تكاليف فحص سلامتها للحصول على «صك براءة» قبل البيع، «وقد قصدَنا عدد كبير من المزارعين لفحص منتجاتهم من الزيتون لتسهيل بيعها واسترضاء التجار والمستهلكين»، بحسب مستشار وزير البيئة ومدير مختبرات البيئة والزراعة والغذاء في الجامعة الأميركية في بيروت محمد أبيض. فيما «عدد كبير من الأهالي ممن يزورون منازلهم في القرى الحدودية، كلما سنحت لهم الفرصة، يتساءلون ما إذا كان في إمكانهم تناول كوز تين أو عنقود عنب»، كما ينقل رئيس بلدية ميس الجبل عبد المنعم شقير، مناشداً الوزارات المعنية «إجراء دراسة علمية تعطي إجابة واضحة حول سلامة المنتجات الزراعية في القرى الجنوبية التي تعرضت للقصف الفوسفوري. عندما يعود الأهالي بعد الحرب، لن ينتظروا إجراء دراسات لمعرفة إن كان بإمكانهم تناول الخضر والفواكه من الأرض، فهل نقتل بالفوسفور من نجوا من القصف؟».
في الواقع، ليست هناك دراسة علمية تعطي نتائج واضحة حول أثر الفوسفور على المنتجات الزراعية، باستثناء محاولات متفرقة لدراسة التربة، منها «تقرير الأثر الاجتماعي البيئي لاستخدام الفوسفور الأبيض» الصادر عن الجامعة الأميركية في بيروت، والذي توقع «انخفاض إنتاجية الأراضي الزراعية خلال السنوات المقبلة بسبب الترسبات الناتجة من الفوسفور، والتي تؤثر في التركيبة الكيميائية للتربة، وبالتالي في النباتات». وهناك أيضاً دراسة أجرتها وزارة البيئة بالتعاون مع جامعة البلمند والبنك الدولي وUNDP في كانون الثاني 2024، حيث «تبيّن ارتفاع نسبة الفوسفور في التربة مئات أضعاف المعدلات الطبيعية»، إضافة إلى نتائج دراسة أجراها خبير الزراعة المستدامة المهندس البيئي قاسم جوني حول أثر القنابل الفوسفورية خلال عدوان 2006 ونشرتها الجامعة الأميركية في بيروت. وقد أظهرت «تسمّم التربة وتلويثها بالمعادن الثقيلة كالرصاص، والكادميوم، والسترونتيوم، وصولاً إلى معادن ثقيلة مشعّة».
وكما تجاهلت الدولة الأثر المحتمل للقنابل الفوسفورية بعد حرب تموز، وتركت المستهلكين والمزارعين «وحظّهم»، يتكرر السيناريو اليوم بغياب أي دراسة تقطع الطريق على الآراء المتضاربة، غير المبنيّة على أسس علمية، ولا تتعدّى كونها تحليلات شخصية تزيد من حيرة المزارعين. فمقابل من يحذّر من «خطورة» استهلاك المحاصيل الزراعية التي تتعرض للفوسفور، هناك من يبالغ في التطمينات إلى حد القول إن الفوسفور «مفيد للمزروعات ويجعلها تنمو بشكل أفضل».
وفي انتظار إرسال وزارة الزراعة بعد وقف إطلاق النار فرقاً إلى القرى الجنوبية لأخذ عيّنات من التربة والثمار وفحصها، و«إصدار النتائج خلال 48 ساعة»، وفق مصدر في الوزارة، يجمع المتخصصون في مجال الهندسة الزراعية والبيئية والغذاء على ضرورة عدم التهويل على المزارعين لرمي محاصيلهم انطلاقاً من القاعدة التي تقول: «إذا نما العشب والزرع بالكمية والنوعية المطلوبة، فهذا مؤشر على أنه لم يتأثر بالقصف الفوسفوري. ويمكن ملاحظة التأثير من خلال النقص في نموّ المزروعات أو نموّها بشكل غير طبيعي»، بحسب أبيض، مشدداً على أن «المطلوب فقط غسل الغبار الناتج من الاحتراق أو انتظار هطول المطر». ويطمئن المزارعين إلى أنه «ليس هناك أيّ ضرر مباشر على صلاحية المحصول الذي تعرّض للفوسفور أو على سلامة المستهلك لأن الفوسفور بنسبة معينة يعدّ سماداً للتربة، كما أنه طبقاً لوكالة حماية البيئة الأميركية EPA لا يعدّ مادة مسرطنة». وعن الترسبات التي يتركها في التربة ولا سيما المعادن الثقيلة التي حذّرت منها دراسة جوني، يرى أبيض أن «كل نبتة تمتص هذه المعادن إن وجدت بطريقة مغايرة. لكن لا أعتقد باحتمال وصولها إلى النبتة لأن الطريق من التربة إلى الثمار طويل، فيما قد تتأذى منها الحشائش. أما الإشعاعات النووية فلا تسمح للمزروعات بأن تنمو أساساً».
ورغم أنه لا توجد دراسة حول أثر الفوسفور على النباتات، لكن انطلاقاً من الملاحظة الأولية وبناءً على القاعدة المذكورة، يمكن الحديث عن مؤشر أولي إيجابي يتعلق بنموّ المزروعات بكميات ونوعيات طبيعية، رغم تعرضها للفوسفور. وتنقل أستاذة علوم البيئة والتصنيع الغذائي في الجامعة اللبنانية الدولية المهندسة البيئية حوراء زهر الدين عن «مزارعين في القرى الحدودية مثل عيتا الشعب وبليدا وحولا والخيام نموّ منتجاتهم الزراعية بشكل طبيعي كمّاً ونوعاً، باستثناء العنب، ويعود ذلك إلى عدة عوامل؛ من بينها التغيّر المناخي لأن هذه المشكلة تنسحب على مناطق أخرى لم تتعرض للقصف». وتشدد زهر الدين على أنه «لو أن المحاصيل تلقّت معادن ثقيلة، لكان ظهر الأثر عليها من خلال تراجع الكميات أو اصفرار الأوراق وذبولها وغير ذلك من العلامات». لكن، كيف يفسّر أبيض عدم تأثر المنتجات الزراعية بنسب الفوسفور المرتفعة مئات الأضعاف في التربة كما أظهرت الدراسة التي أجرتها «البيئة»؟ يجيب: «تحتاج التربة إلى معدلات معينة من الفوسفور الموجود أساساً في السماد إلى جانب النيتروجين والبوتاسيوم، وليس بالضرورة أن تمتص التربة معدلات الفوسفور العالية كلها. مع ذلك، المطلوب فحص مكوّنات التربة لتخفيض معدلات الفوسفور أو رفع المكوّنين الآخرين». إلا أنه بنبغي وفق المتخصّصين معرفة «الخلطة» التي تحملها قنابل العدوّ إلى جانب الفوسفور، وما إذا كانت التربة تمتص هذه العناصر. لذلك، يبقى إعداد الدراسات حول مخاطر الفوسفور ضرورياً لإثبات جرائم العدوّ، وربما لذلك لم يتوفر التمويل الدولي بعد لمثل هذه الدراسة.
حتى 27 آب 2024، بلغت مساحة الأراضي المحروقة نتيجة تعرضها لقصف العدوّ الإسرائيلي بالقنابل الفوسفورية أكثر من 3220 دونماً (322 هكتاراً)، وتلك المتضررة 7200 دونم (720 هكتاراً)، أي ما مجموعه 10420 دونماً (1042 هكتاراً)، 35% منها أراضٍ زراعية تضمّ أكثر من 60 ألف شجرة زيتون معمّرة، بحسب وزارة الزراعة. أما وفق أرقام وزارة البيئة، فقد بلغت مساحة الأراضي المحروقة بالقنابل الفوسفورية حتى آخر حزيران الماضي 4300 هكتار، والأراضي الزراعية 700 هكتار، 75 هكتاراً منها مزروعة بالزيتون.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك