أعلن رئيس الحكومة المستقيل في لبنان سعد الحريري أنه لا يريد تكليفاً بتشكيل حكومة جديدة في لبنان، ونصح رئيس الجمهورية بالدعوة لاستشاراتٍ نيابية مُلزمة حسب الدستور تؤدي لتكليف أحدٍ غيره بذلك. وقد حدث ذلك بعد أربعين يوماً ونيف على نزول الشباب للشارع في مختلف مناطق لبنان. وحدث بعد مضي ثلاثين يوماً وزيادة على استقالة سعد الحريري استجابة لمطالب الشارع كما قال. ومنذ ذلك الحين أقبلت سائر الأطراف السياسية المشاركة في الحكومة الحالية على التفاوض مع الحريري من أجل إعادة تكليفه بالتناصف في الشروط والموجبات. ونقاط القوة لديهم: أنه كان شريكاً لهم في التسوية قبل ثلاث سنوات، وشكّل معهم حكومتين،
«ويسواهم ما يسواه»، كما يقول اللبنانيون، وأنّ رئيس الجمهورية لن يدعو لاستشاراتٍ نيابية حسب الدستور إلاّ بعد الاتفاق مع سعد على التشكيلة، وأخيراً أنهم يستطيعون التحرش بالحراك الشبابي الذي تعاطف معه سعد واستقال، لكي يقنعوه بقبول مطالبهم في التشكيل، بل وقبول التكليف بعد أن دخل في وعيهم أخيراً أنّ الرجل قد لا يريد فعلاً ترؤس الحكومة الثالثة للعهد الميمون!
«ويسواهم ما يسواه»، كما يقول اللبنانيون، وأنّ رئيس الجمهورية لن يدعو لاستشاراتٍ نيابية حسب الدستور إلاّ بعد الاتفاق مع سعد على التشكيلة، وأخيراً أنهم يستطيعون التحرش بالحراك الشبابي الذي تعاطف معه سعد واستقال، لكي يقنعوه بقبول مطالبهم في التشكيل، بل وقبول التكليف بعد أن دخل في وعيهم أخيراً أنّ الرجل قد لا يريد فعلاً ترؤس الحكومة الثالثة للعهد الميمون!
كانت صدمتهم الأولى معه أنه استقال رغم إنذار حسن نصر الله له في خطابين علنيين بعدم الاستقالة أو ينزل أنصاره للشارع، كما فعلوا أخيراً. ومع ذلك، ولأنهم اعتبروا أن الحريري لم يكن يعني ما قال، عندما يقول إنه لا يقبل أن يترأس إلا حكومة مستقلة مكونة من اختصاصيين؛ فإنّ جبران باسيل أتى إليه وساومه على أحد مخرجين: إما حكومة مختلطة من تكنوقراط وسياسيين، وفيها سعد وجبران، أو حكومة ليس فيها سعد ولا جبران ويدعمها سعد الحريري.
وبعد باسيل جاء إليه الخليلان: حسين خليل وعلي حسن خليل، وتفاوضا معه على حكومة سمياها: تكنو - سياسية ليس فيها جبران، ولكن فيها قليل من السياسيين، وكثرة من التكنوقراط. وما وافق سعد أيضاً، مما أدى إلى غضب الرئيس بري منه وكان ما يزال داعماً له. إنما عندها بدأوا يفاوضونه على آخر يقبله سعد من السنة، فظهر اسم محمد الصفدي الذي كان سعد موافقاً عليه، لكنّ رؤساء الحكومة السابقين عارضوه، وكذلك حراك الشارع فانسحب الرجل. وعندما بدا أنه لا أحد غير سعد يمكنه أن يجمع بين تأييد الشارع، وتأييد شركاء لبنان في المجتمع الدولي، عادوا إليه بشروط الحد الأدنى: 4 سياسيين، و16 من التكنوقراط، دون أن يحظى ذلك بموافقته. وعندما بدا أنه لن يصل معهم إلى شيء، وأن الأزمة تتفاقم مالاً واقتصاداً ومصارف وشركات، خرج إلى العلن، وقال إنّ الآخرين لا يدركون خطورة الوضع، وإنهم في حالة إنكار، وهو لا يستطيع تشكيل حكومة في ظروف الأزمة، والثورة لا تلبي مطالب الشباب؛ ولذلك يعلن اعتزاله عمليات تشكيل الحكومة، ويطلب من الرئيس ومجلس النواب تكليف أحدٍ غيره!
لماذا أصرَّ الحريري على حكومة اختصاصيين، ولماذا أصرَّ الآخرون على المشاركة ولم يقبلوا الابتعاد قليلاً؟ سرت عدة شائعات بشأن صلابة سعد الحريري مؤخراً، فقال بعض المتحزبين إنّ السبب أن الدوليين أصرّوا عليه أن يعزل «حزب الله» عن الحكومة، وأن يعزل الفاسدين المعروفين أو النافرين. ونفى الدوليون ذلك، الفرنسيون والبريطانيون، وتحدث الرئيس الأميركي إلى الرئيس عون عشية ذكرى الاستقلال، واستحثه على تشكيل حكومة جديدة بسرعة. وصدرت توصيتان من مجلس الأمن. وأعلنت جهات استشارية دولية خفض الدرجة الائتمانية لمصارف لبنانية كبيرة. وكل هذه الجهات اتفقت على ضرورة الإسراع في تشكيل حكومة تستجيب لتطلعات الشباب. وعندما تشاور الأميركيون والبريطانيون والفرنسيون بباريس بشأن لبنان ما اختلف خطابهم، وكذلك الأمر مع المبعوث البريطاني إلى بيروت. وكل هذه الجهات تحبذ رئاسة سعد الحريري، لكنّ الأهمّ عندها تشكيل حكومة مقبولة من الشباب، وتبعث على الثقة لدى المجتمع الدولي. أما السفير الروسي في لبنان فقال إنّ روسيا كانت مع لبنان وما تزال! وهكذا باستثناء أنّ الحريري يريد حكومة اختصاصيين خالصة، فكل الجهات تريده أن يبقى في رئاسة الحكومة. فلماذا لا يبقى ولو بنصف شروطٍ كما كان يفعل طوال السنوات الثلاث الماضية؟ هذا هو الأمر. فقد عانى الرجل معاناة شديدة من الوزير باسيل، وكان يعتمد على رئيس الجمهورية باعتباره حكماً!
فلنعدُ إلى الطرف الآخر. نصر الله شديد الارتباك نتيجة ما يحصل في إيران والعراق ولبنان. وهو يفضّل الإبقاء على الوضع الراهن في لبنان. وقد تبين له بعد استقالة الحريري أن ذلك غير ممكن. وهو لا يريد بأي ثمنٍ الانكشاف بالبقاء خارج الحكومة، ولذا إن لم يكن مع الحريري فخارج الحريري. وعنده شخصيات سنية، لكنّ أحداً منها لا يتمتع بالصدقية لا مع الجمهور الثائر ولا مع المجتمع الدولي. أما الذي وضعه صعبٌ فعلاً فالعهد وجبران باسيل، وقد انهارت شعبيتهم لدى المسيحيين، وما بقي لهم غير «حزب الله». ولذا فتصور بقائهم خارج الحكومة وهم أكبر كتلة في المجلس النيابي المنتخب قبل عامٍ ونصف، أمرٌ شديد الهول!
ماذا يحصل الآن؟ ما يئس الكل من الحريري، وبخاصة الجمهور السني. لكنّ الرئيس و«حزب الله» الآن مضطران للذهاب نحو غيره. الرئيس قد يعلن عن بدء الاستشارات هذا الأسبوع، ويمكن في الاستشارات أن يحصل واحد على تأييد 65 أو 66 نائباً من أنصار عون ونصر الله، لكنه لن يستطيع التشكيل، لأن الحريري وحليفيه الجديدين - القديمين جعجع وجنبلاط لن يشاركوا. وحكومة اللون الواحد لن تنجح لا بالداخل ولا بالخارج. إنما الغالب ألا يحصل أحدٌ على الأكثرية، وتبقى الحكومة الحالية المشلولة: حكومة تصريف الأعمال!
يقول الدوليون والجهات المالية العالمية (البنك الدولي، وصندوق النقد، والمؤسسات الاستشارية) إنّ لأزمة لبنان الاقتصادية والمالية مساراً مستقلاً، وسواء تشكلت الحكومة أم لم تتشكل، فالأمور سائرة إلى انهيار محتَّم. وكل الناس مرعوبون على حساباتهم، والتجار على تحويلاتهم. وما من أحدٍ عنده خطة لوقف الانهيار، ولا لإحداث النمو.
سعد الحريري اعتذر. والمظاهرات مستمرة. والأسواق جامدة. والثنائي الشيعي بدأ يتحرش بالمتظاهرين. والإنذارات بالإفلاس والانهيار تتولى على مسامع المسؤولين وأبصارهم دون بصائرهم. ولا حديث لأهل التيار الوطني الحر إلاّ عن الفساد قبل ثلاثين عاماً، أما هم فبريئون براءة الذئب من دم يوسف. فمن الذي قلب للآخر ظهر المجنّ؟ الحريري عليهم، أم هم على الحريري، أم الحراك على الجميع؟!
تكاثرت الظباء على خراشٍ
فما يدري خراشٌ ما يصيدُ
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك