فجأة، فُتِح الدُرج. وُضِع قانون الانتخاب على طاولة النقاش، وبدأ الصراخ «على رأسه»: «هذا يناسبني وذاك يناسبك»! الغريب، في تلك اللحظة، أنّ البلد كلّه كان في مكان آخر. كان يغلي، على مشارف انهيار مُريع لليرة، في استعادةٍ لكابوسٍ سابق. و«على أساس» أنّ أهل السلطة اجتمعوا كهيئة طوارئ لمنع الانهيار، فمِن أين جاءتهم الفكرة الغريبة في هذه «الحَشْرة»: أتركوا الانهيار في حاله، وتعالوا ننظّم الانتخابات المقبلة بعد 3 سنوات!
عند التعمّق في السياق السياسي، لا يمكن استغراب ما حصل. فقانون الانتخاب هو الأداة التي ستستعمل بعد 3 سنوات لتركيب السلطة بكاملها، مبدئياً، وفي غضون أشهر قليلة: مجلس النواب (ربيع 2022)، والحكومة بعد ذلك مباشرة، ورئاسة الجمهورية (خريف 2022).
وجَد بعض الأقوياء أنّه من الممكن، بدءاً من اليوم، إجراء مساومات وعقد صفقات حول هذا القانون، أي حول مستقبل كل من القوى السياسية في التركيبة الآتية، مع انتهاء عهد الرئيس ميشال عون.
ولكن أيضاً، عند الحاجة، يمكن استعجال الأمر للابتزاز، أو لعقد صفقةٍ تغطّي السنوات الثلاث الباقية من العهد. أي، إجراء تعديلات في تركيبة الحكومة الحالية، بحيث تتمّ تقوية أطرافٍ سياسية فيها، وإضعاف أطرافٍ أخرى، لضمان السيطرة على الانتخابات والاستحقاقات المقبلة.
وهذا الأمر يرتدي أهمية بالغة في هذه المرحلة. لأنّ الأزمة الحالية ليست محض اقتصادية - مالية - نقدية، بل هي سياسية بكل المقاييس، وذات أبعاد إقليمية ودولية. وتحديداً، هي أحد مشاهد «الكِباش» بين الولايات المتحدة وإيران، حيث لبنان ساحة قتال وأداة مواجهة يستخدمها الطرفان.
وتتوزّع خريطة القوى الداخلية المنخرطة في الصراع، كالآتي:
1- «حزب الله» يدير معركة إيران، ويحظى بدعم شريكه الشيعي الرئيس نبيه بري الذي يحاول الاحتفاظ بتَموضع أكثر انفتاحاً. ويتحالف معه الرئيس عون و«التيار الوطني الحرّ» على رغم الضغوط الأميركية القوية لفكّ ارتباطه بـ«الحزب».
2- الرئيس سعد الحريري عاجز عن مواجهة «الحزب» والخروج من التسوية، كما هو عاجز عن مقاومة ضغوط الولايات المتحدة والسعودية التي تدفعه إلى المواجهة.
3- رئيس التقدمي وليد جنبلاط أنجَز قبل أيام مساومة، على مَضَض، مع أركان التسوية، أدّت إلى تهدئة اللعبة التي وصلت إلى ذروة الغليان بعد حادثة قبرشمون. وهو تلقّى دعماً مباشراً ببيان السفارة الأميركية، كما تلقّى تطمينات داخلية إلى أنّ «مستقبل» بيتِه السياسي محفوظ إذا «لم يُشاغب». وهكذا، يتأرجح جنبلاط ضمن الخانة الرمادية، إنتظاراً لما سيأتي.
4- الدكتور سمير جعجع هو الوحيد المعترض من داخل تركيبة الحكم الحالية، ويعتبره الخصوم جزءاً من معسكر الخيارات الأميركية والسعودية. وهو نفسه أكّد أخيراً أنه وحده المستهدف، إذ قال: «وجودنا لا يناسب الآخرين، ومعظمهم على طاولة مجلس الوزراء «بيشوفونا مِتل الصوص الغريب».
5- قوى الاعتراض الموجودة خارج السلطة، كحزب الكتائب وشرائح المجتمع المدني.
يخوض «حزب الله» معركة إيران، واستراتيجيته تقضي بالدفاع عن التركيبة الحالية. وهو مطمئن إلى عون وفريقه السياسي، ومرتاح إلى أنّ الحريري لم يخطئ معه منذ عودته إلى السراي. ويسجّل «الحزب» للحريري أنه، منذ عامين، يُماطِل في استجابة الدعوات السعودية والأميركية الملحّة للخروج من التسوية.
أمّا الولايات المتحدة، التي تعبت من المراهنة على «استقلالية الحَدّ الأدنى» لدى عون وفريقه السياسي، فلا تزال تراهن على أنّ الحريري سيندفع في النهاية - تحت الضغط - إلى خارج المنظومة التي تدعمها إيران.
لكنّ الأميركيين مرتاحون إلى تَموضع جنبلاط وجعجع، والقوى الأخرى غير المنضوية في منظومة السلطة. ومقابل هذه المنظومة التي تدعمها إيران، يحافظ الأميركيون على مؤسستين خطاً أحمر: الجيش ومصرف لبنان.
بناءً على هذه الصورة، يمكن إدراك لماذا سارَع «حزب الله» إلى رَمي قانون الانتخاب على الطاولة في شكل عاجل وخارج السياق. إنه يتعامل مع الأزمة المالية - النقدية باعتبارها أحد أوجُه الهجوم عليه. وهو قرّر الردّ عليها باستهداف مباشر للخصوم، والتلويح بإضعافهم وعَزلهم عن تركيبة الحكم.
في تقدير «الحزب» أنّ تحالف القوى المستفيدة حالياً من تركيبة السلطة سيدافع عنها بشراسة. ومن شأن هذا «الكارتل» السياسي أن يحوّل القوى الأخرى أقليةً مَعدومة القدرات، ولو كانت تتلقى الدعم الأميركي والسعودي.
وأمّا سلاح الشارع الذي تمتلكه قوى الاعتراض، فهو محدود الفاعلية في نظر العديد من المتابعين. وأثبتت التجارب السابقة كلها، وآخرها تجربة الأحد الفائت، أنّ مجموعات حزبية صغيرة تستطيع - عندما تريد - إفشال الحراك المدني وإدخاله في الفوضى، فيسقط، ويُصاب أصحابه بالإحباط.
في هذا السياق، جاء التلويح بقانون انتخاب «انتقامي». والهدف هو إخافة جنبلاط، ولكن خصوصاً استثارة مخاوف جعجع الذي يعرف أنه على رأس لائحة المستهدفين، وأنّ خصومه يتمنون إضعافه وعزله.
لذلك، إنّ جعجع هو اليوم أكثر القَلقين من عملية ابتزاز يتعرض لها بتغيير قانون الانتخاب الحالي الذي كان ملائماً له في دورة العام الفائت، فوَفّر له الدخول إلى المجلس النيابي بكتلة قوية قوامها 15 نائباً.
المثير أنّ الوزير جبران باسيل هو أيضاً يخشى انقلاباً في قانون الانتخاب، يطيح المكتسبات التي حققها في القانون الحالي. هو طبعاً يريد إضعاف خصمه الماروني اللدود جعجع، ولكن بوسائل أخرى. فأيّ اهتزاز في قانون الانتخاب قد يدفع باسيل أيضاً ثمنه. وهو يدرك أنّ أعداءه كثيرون، في الطوائف كافة، ينتظرونه «على كوع» قانون الانتخاب لإضعافه أيضاً.
هل يُتاح الانتقام من «القوات» وإضعاف جعجع في النصف الثاني من عهد عون، بحيث يفقد الحضور في استحقاقات 2022؟
الجواب رهنٌ بمَدى تَماسك الحريري وجنبلاط مع «القوات»، بحيث يشكّلان معها حدّاً أدنى من الجبهة القادرة على الصمود، بدعم أميركي وسعودي. لكنّ الحريري لا يوفّر مناسبة إلّا ويذكّر فيها بأنّ جعجع كان المُحرّض الأساسي عليه عشيّة أزمة الاستقالة الشهيرة في الرياض، قبل عامين. وسيكون على الجميع أن يفكروا جيداً: مَن هم أعداؤهم الحقيقيون ومَن هم حلفاؤهم، قبل أن يتخذوا أي قرار.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك