رزحت المجتمعات العربية على امتداد أكثر من نصف قرن، تحت هيمنة السلطات التي انتجتها الانقلابات العسكرية والكواليس الأمنية، واستعانت هذه السلطات بالأذرع الأمنية لتدجين الشعوب وتأبيد أنظمة الحكام الذين أفرزتهم تلك الانقلابات. لكن تراكم المشكلات الاجتماعية والسياسية على امتداد عشرات السنوات، وخيبة أمل الناس من إجراء أي تغيير أو إصلاح، أديّا الى كسر حلقة الصمت وانتفاضة الناس في أكثر من مكان.
في مراجعة سريعة لمشهد الانقلابات العسكرية التي بدأت في خمسينات القرن الماضي، وسمّي بعضها في ما بعد بالثورات العربية، نجد المشهد يتكرر: في مصر ثورة الضباط الأحرار، وفي ليبيا ثورة الفاتح، وفي سوريا الحركة التصحيحية، وفي تونس إطاحة زين العابدين بن علي بالحبيب بورقيبة، وفي الجزائر بومدين ببن بله، وفي العراق صدام حسين بأحمد حسن البكر... وقد عملت تلك التجارب على استنساخ بعضها البعض واعتمدت أساليب ووسائل الحكم الاستبدادي نفسها، وإن تفاوتت نسبة القمع والقهر بين تجربة وأخرى أو نظام وآخر. فكل البلدان التي شهدت انتقالاً عنفياً أو انقلابياً للسلطة سادت فيها ظاهرة تقديس القائد الرمز، وجرى العمل على تأبيد هذه الظاهرة، كما أن السلطة تكونت في هذه البلدان على أساس نظام الحزب الواحد، وكانت أنظمة الطوارئ ومحاكم أمن الدولة فيها الناظم الفعلي للحياة السياسية والثقافية. لكن الأمانة في الكتابة والتحليل تقضي بعدم التعميم في وصف قادة ورموز حقبة سلطة الانقلابات، إذ إن هناك قادة كجمال عبد الناصر مثلاً، هم الذين أعطوا السلطة بعدها الثوري وليس العكس.
إذاً، أدت ممارسة السلطات الظالمة لعقود، الى نفاد صبر الشعوب العربية، ولعل نموذج البوعزيزي خير دليل على حالة القهر التي وصلت اليها الشعوب العربية، والمعروف أن هذا الشاب المقهور والمهان أضرم النار بنفسه ليوقد شرارة الانتفاضات العربية المتنقلة من بلد عربي الى آخر. وبذلك يكون هذا المواطن التونسي العادي قد أرّخ لمرحلة جديدة في العالم العربي، هي مرحلة الانتفاضات الشعبية التي تستلهم كل منها عبر ودروس التجربة التي سبقتها، هذه الانتفاضات الشعبية التي بخلاف الانقلابات العسكرية، أبطالها ورموزها ليسوا ضباطاً أو أمنيين أو قادة أحزاب أو سياسيين بل مجموعات من الناشطين في مجال القانون وحقوق الإنسان أو في مجال الصحافة والبرمجة ووسائل التواصل الاجتماعي أمثال وائل غنيم وطل الملوحي وغيرهما.
قد يكون من غير المنصف في مجال الحديث عن الانتفاضات العربية، عدم ذكر تجربة انتفاضتين عربيتين رائدتين: الأولى، انتفاضة أطفال الحجارة في فلسطين في أواخر ثمانينات القرن الماضي، والثانية، انتفاضة الشعب اللبناني في 14 آذار 2005. فالانتفاضة الأولى كان لها الفضل الأول في إعادة فلسطين الى جغرافيا العالم السياسية ولو من خلال ما يسمى "الأراضي الفلسطينية"، بعد أن كانت مجرد شعار أو قضية معلقة أو عالقة في أجندات مؤجلة. والانتفاضة الثانية، ربيع بيروت 2005، التي كان لها الدور في سحب لبنان من السجن العربي الكبير الذي أدخل اليه في منتصف سبعينات القرن الماضي، وإعادة الروح اليه ليلعب دوره الحيوي والمميز على المستوى المحلي والعربي والدولي.
نعم، ليس مبالغة القول إن مقدمات عصر الانتفاضات العربية التي بدأت بتقليص مساحة السجن الكبير، قد بدأت في ثمانينات القرن الماضي، في فلسطين من خلال أطفال الحجارة الذين كانوا أول من أسقط جدار الخوف والصمت، وعبروا بالحجارة بين أصابعهم الندية أولاً وقبل أي شيء، عن سخطهم على الواقع العربي المزايد والرديء، الذي تخلى عنهم وكان أحد عوامل انقسامهم وتشرذمهم. وفي السياق ذاته يمكن وضع انتفاضة الشعب اللبناني في 14 آذار 2005، التي وإن كانت ناقصة وغير مكتملة، فهذا لا يلغي دورها الموحي والممهّد للانتفاضات الشعبية المنتصرة في تونس ومصر، والمستمرة في ليبيا واليمن وسوريا.
مهما يكن من اختلاف أو بعد جغرافي بين بلد عربي وآخر، فإن روح العصر المتمردة والمنتفضة تغمر الشعوب العربية، ولا يعتقد أن هناك أي شعب أو جماعة مهما اشتدت عمليات البطش بها، هي قادرة أن تعيش خارج العصر بذهنية زمن الانقلابات البائد أو السجن الكبير الذي دفع البوعزيزي الى إضرام النار في نفسه والمنتفضين في مصر وليبيا واليمن وسوريا الى مواجهة الرصاص والقذائف بصدورهم العارية.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك