بين ليلة وضحاها تحول جمال الجراح إلى قضية. سعيه الحثيث للصعود على «سلم المجد»، خلال السنوات العشر الماضية، لم يحقق له ما حققه «التقرير التلفزيوني السوري». وبعدما كان «يركّب الأفلام» لنيل رضا الرئيس رفيق الحريري، وجد نفسه، أبناً مدللاً للحريرية، ومحتضناًَ من قبل، حتى من يزعجهم وجوده داخل الكتلة.
كافأ الرئيس سعد الحريري نائبه، الذي «صد بصدره الهجوم السوري على تيار المستقبل». «كزدر» معه أمام عدسة الكاميرا في حديقة قصره، وعلى انفراد، مؤكداً تضامنه التام معه، في وجه «الاتهامات السخيفة». كزدورة بمعانِ كثيرة، جعلت أبناء الحاشية يغارون من زميلهم، ولا يترددون بقول «مبروك يا جمال».. حتى لو بغيظ مكتوم.
اتهام الجراح بتسليح مجموعات سلفية في سوريا لم يكن الحادث الأول الذي جعله محور الاهتمام. قبل ذلك بسنوات وتحديداً في العام 2004، حاول تصوير مشهد درامي يعزز موقعه في دائرة الحريري. أعلن حينها أن سيارته تعرضت لإطلاق نار على خلفية تأييده للحريري، فما كان حينها إلا أن انقلب السحر على الساحر وبدل أن يكسب ود زعيمه حصد غضبه، بعد أن تبين، نتيجة التحقيقات الأمنية، أن ما روجه الجراح عن محاولة اغتياله من قبل إحدى العائلات الكبيرة في بلدته المرج البقاعية، على خلفية مواقفه السياسية لم يكن صحيحاً. وبدل أن ينتقل إلى الدائرة الضيقة للحريري، كما كان يتوقع، وجد نفسه مقتاداً إلى مخفر المصنع، قبل أن يحول إلى نظارة قصر العدل في زحلة.
في هذه الأثناء، كانت شبكة علاقات الجراح في سوريا، وخاصة عبر نائب الرئيس السوري عبد الحليم خدام، قد بدأت تؤتي ثمارها لبنانياً. لم يطل مكوثه في السجن بعد اتصالات سياسية شملت اللواء علي الحاج الذي كان آنذاك قائد منطقة البقاع في قوى الأمن ورئيس الاستخبارات السورية في عنجر رستم غزالي. وحده الحريري ظل على غضبه، وعاقبه بإبعاده عن «بنك البحر المتوسط» ـ فرع شتورا.
لهذه الوظيفة قصتها أيضاً مع ابن المرج المولود في العام 1956. ففي بداية التسعينيات، طلب الجراح من «نائب المنطقة» الوزير عبد الرحيم مراد التوسط لدى الرئيس فؤاد السنيورة لتوظيفه في البنك المذكور. وسرعان ما نال الجراح إعجاب السنيورة وخاصة قدرته على جذب الرساميل السورية إلى المصرف، معتمداً على علاقته بغازي كنعان، وبتسهيل المرور الذي أمنه له شقيقه الذي كان آنذاك مسؤولاً عن نقطة أمن المصنع.
خلال سنوات قليلة كان الجراح قد بنى شبكة علاقات مع مسؤولين سوريين، وصلت أموالهم إلى لبنان عبر التهريب، وعلى رأسهم عبد الحليم خدام وابنه جمال، حيث تحول الجراح سريعاً إلى المؤتمن على توظيف أموالهما في لبنان. وهذه العلاقة أسست لمرحلة جديدة في حياة الجراح، لطالما كان يحلم بها، وأهلته ليكون نائباً في البرلمان اللبناني في العام 2005.
الانطلاقة السياسية الرسمية بدأها النائب الجراح في العام 2000، بصفته مسؤول الماكينة الانتخابية لعبد الرحيم مراد، وهي المهمة التي أوكلت له من قبل الرئيس الحريري آنذاك، الذي كان على صداقة مع مراد.
قبل الانتخابات بحوالي اسبوعين أشاع الجراح بأن «النائب سامي الخطيب مهدد بالسقوط لمصلحة المرشح فاروق دحروج»، ناصحاً بضرورة «تعويم الخطيب شعبيا لتفادي خسارته في الانتخابات النيابية». وهو في سعيه هذا كان يوحي أن الطلب صادر عن الرئيس الحريري شخصيا. إلا أن «مؤامرة» الجراح سرعان ما كشفت عن طريق الصدفة، حيث عثر أحد الناشطين في ماكينة مراد الانتخابية، أثناء وجوده في منزل الخطيب على آلاف اللوائح الانتخابية المتضمنة اسم فاروق دحروج بدل عبد الرحيم مراد، ما أدى إلى خسارة مراد الكثير من الأصوات، حيث تخطى دحروج بفارق بسيط جداً لا يتعدى 1500 صوت.
في ذلك العام، بدأ الفتور يميز علاقة الرجلين، قبل أن تنقطع نهائياً بعد اغتيال الحريري، نتيجة الفرز الذي شهدته البلاد. عندها وجد الجراح أن الفرصة التي لطالما انتظرها صارت قريبة جداً. أعلن رغبته بالترشح للانتخابات النيابية، مدعوماً بشكل مطلق من خدام، الذي عمل على تسويقه لدى الرئيس سعد الحريري. أزيحت كل العراقيل والشكوك الأميركية الناتجة عن التخوف من ارتباطه بتنظيم «القاعدة» من طريقه (زياد الجراح أحد منفذي هجوم 11 أيلول هو ابن شقيقه)، وصارت الحصانة بمتناوله.
عمل سعادة النائب جاهداً على إظهار صورته كمدافع أساسي في المنطقة عن تيار الحريري، إلا أن صورته الأبرز التي ظلت ترافقه أينما حل هي «الغرور»، كما يؤكد عارفوه القلة من أهل بلدته، التي نادراً ما يزورها، وكذلك عدد كبير من زملائه النواب. وهي صفة جعلته أحياناً كثيرة «يشطح»، فيزيح عن الخط المرسوم له من قبل الحريري، في محاولته مراكمة الأمجاد الشخصية. تلك الأمجاد التي ارتكزت إلى مجموعة علاقات سياسية معقدة، لا تبدأ عند خدام كما لا تنتهي عند سمير جعجع.
وفي الفترة نفسها، التي صار للجراح دور على الأرض. فرّ عبد الحليم خدام من سوريا تاركا له مسؤولية إخراج سياراته الى لبنان وإدارة شؤونه المالية في المصارف اللبنانية وتحديدا في بنك البحر المتوسط ـ فرع شتورة. وكان الجراح على قدر الثقة المعطاة له، فنجح وما يزال في إدارة أموال عائلة خدام. كما استطاع سحب السيارات من سوريا (إحداها وهي من نوع مرسيدس 500، تستعمل بلوحة لبنانية مزورة). علماً ان ملف هذه السيارات وطريقة استقدامها لم يقفل بعد. وتردد أن الجراح استُجوب منذ ما يناهز سبعة أشهر في ثكنة أبلح على خلفية الموضوع.
مع بروز النشاط الامني لتيار «المستقبل» عبر شركة «سكيور بلاس»، صار للجراح دور إضافي، نجح عبره في «تجنيد» أعداد كبيرة من أبناء البقاع الغربي والاوسط في الشركة. إلا أنه بعد انفراط عقدها إثر أحداث 7 أيار، صار خطاب الجراح أكثر تشدداً في اعتماده على التحريض المذهبي والطائفي، مصحوباً بتوزيع أسلحة على مناصريه، وهو الموصوف بـأنه «رجل القوات في تيار المستقبل». كما لم يتردد في التهويل بالمد الشيعي والتحذير من «سيطرته على بلدات ومساجد لأهلة السنة وتحويلها إلى حسينيات».
كل التحفظات التي كانت تردد على ألسنة تيار «المستقبل» رئيساً وأعضاء ومناصرين، صارت من الماضي. والكرسي الذي كان مرجحاً أن يتخلى عن صاحبه، صار أكثر تمسكاً به، اللهم إلا إذا عارض الحظ النائب البقاعي، وأعاد المياه إلى مجاريها بين «المستقبل» وسوريا.
من هذه الناحية، يبدو الجراح مطمئناً إلى أقصى الحدود، ومن يعرفه يؤكد أنه مزهو بهذا الانجاز الذي خدمه التلفزيون السوري في نسبه إليه، والذي رفع أسهمه عالياً من دون مشقة. هو على الأقل، لن يكون بحاجة، قبل انتخابات 2013، إلى البحث عن خطة شبيهة بحادثة العام 2004... وهو يردد في الدائرة الضيقة به في بيروت كما في المرج انه يفتخر بعلاقته الشخصية بعبد الحليم خدام وعائلته وأن «البيزنس» في أحسن أحواله بينهما... وأن خدام نفسه كان محبطا عند بدء الأحداث السورية لأنه قال له «يا جمال النظام قوي ولن يهتز واستمراره حاجة اقليمية ودولية، فلا يراهن أحد منكم على غير ذلك». يقول جمال انه حفظ الدرس من «ابو جمال» فكيف يمكن أن «يدهور» نفسه في منزلق التخريب في سوريا «الا اذا كان المقصود من اتهامي توجيه رسالة الى سعد أو السعوديين»!
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك