لغة الاهتراء السياسي حداً لا تنفع معه حكومة ببرنامج عمل تقليدي. إذا كان تشكيل الحكومة من مكوّنات متقاربة سياسياً يأخذ هذا الوقت المهدور فلن تكون إدارتها سهلة ولا قراراتها عاجلة ولا تعاطيها مع المشكلات بروح الفريق الواحد. ما ينتظر الحكومة إذا ولدت بعد هذا المخاض العسير ملفات تبدأ بالأمن ولا تنتهي عند الأزمات الاجتماعية والرياح السياسية الإقليمية. يلفظ النظام الرسمي العربي أنفاسه الأخيرة وينشغل باستكشاف خياراته والبحث عن شرعيته ويعجز عن تقديم أي دعم للبنان في قضايا تطرح نفسها عليه داخل كل مجتمع ودولة. ما حصل ويحصل في العالم العربي ينزع عن أي دولة صفة المرجعية الضامنة لمحيطها القريب. فقدت مصر دورها الأفريقي منذ زمن ولم تستعد هذا الدور بعد، وفقدت المملكة العربية السعودية دورها العربي الواسع وقد تورطت في سياسات فاشلة من العراق إلى لبنان واليمن والبحرين. والآن تبدأ سوريا في خسارة رصيدها كمحور جذب وتماسك لما بقي من كيانات في المشرق العربي.
لطالما أكدت تجارب العرب على أن أمنهم القومي هو وحدة متكاملة. فلا تستطيع دولة بمفردها مهما حاولت أن ترسم لنفسها سياسات خاصة وتحالفات. إما أن يتجه العرب إلى بناء منظومة إقليمية متعاونة وإما هم يتفرقون أيدي سبأ بين المطامع الدولية والمصالح الإقليمية. ولن يكون متاحاً للعرب أن يصوغوا مشروعاً واحداً ما لم تكن منهجيات دولهم وأنظمتهم في الداخل منسجمة أولاً مع طموحات شعوبهم، وثانياً مع المصالح العربية العليا المشتركة في مواجهة تحديات كانت ولا تزال مشتركة.
منذ سقوط نظام صدام حسين دخلت إيران طرفاً مباشراً في السياسات العربية ولم تكن تجربتها في العراق مطمئنة لدول الخليج. سيطرت الثنائية الإيرانية الأميركية إلى حد إقصاء عرب أميركا أنفسهم من المعادلة، ولم ينفع الدور التركي النشط المستجد حتى الآن في إيجاد توازن إقليمي يساعد على الحضور العربي الفعال. وحدها سوريا سعت إلى تفعيل هذا التوازن فاصطدمت بغياب الدور المصري وجنوح الدور السعودي إلى مناهضة هكذا نظام إقليمي بمكوناته التاريخية لصالح الاعتماد على المظلة الأميركية والانخراط في مشروعها.
طوال سنوات خمس دعمت السعودية الفريق المناهض لسوريا في لبنان وتورّط نظام «الاعتدال» العربي في تغطية الحرب الإسرائيلية على لبنان وغزة بذريعة تطويق النفوذ الإيراني. فشلت هذه السياسات وخرجت الشعوب العربية لتطرح قضاياها المصادرة والمكبوتة بعد انهيار شرعية النظام الرسمي وتهافته الكامل أمام التحديات الخارجية. إنه مشهد معقد لا شك بذلك لا يمكن اختصاره بعجالة. لكن حجم التفاعلات الدولية والإقليمية مع حراك الشعوب يجعل المنطقة تغلي فوق صفيح ساخن بحثاً عن نظام جديد. هناك جدل بين التفكك والوحدة، بين التقدم والتأخر، بين مشروع يزاوج السيطرة الغربية مع تجديد أدوات الأنظمة القائمة، وبين مشروع يحاول إعادة صياغة النظام العربي في تعايش سلمي وتعاون مع إيران وتركيا يقوم على تحجيم الدور الإسرائيلي ومحاصرته، ويصلح النظام العربي كله بأفق ديموقراطي حقيقي. هنا يأتي دور سوريا ويضعها أمام خيار محدد: إما أن تنضم إلى حصيلة النظام الرسمي العربي وتفقد رصيدها السابق، وإما أن تتصدر المواجهة فتأخذ من ممانعتها ومن دعمها لحركات المقاومة، ومن خيارها الإقليمي ركيزة لاستقبال المتغيرات العربية والانحياز إلى حركات الشعوب التي تشق طريقها إلى غد عربي أفضل. كان يفترض بسوريا أن تكون الأكثر التصاقاً بالتحولات المصرية والأكثر ترحيباً بانتفاضات تونس واليمن وليبيا والبحرين. وكان يفترض أن تكون سوريا هي المنبر الرسمي والملاذ لحركات التغيير هذه وأن تبادر إلى تفعيل علاقاتها بتركيا خصوصاً لتعطيل الهجمة الشرسة من النظام الرسمي العربي وما ينطوي عليه من دلالات تحرّض عناصر الانقسامات الأهلية في كل مكان. من الطبيعي أن تستهدف سوريا ويستهدف لبنان وغزة كل بنقاط ضعفه. لكن لا يزال أمام سوريا فرصة المراجعة لفهم أفضل تاريخي رؤيوي لمستقبل العرب.
لا تستطيع سوريا أن تقف في جبهة الدفاع عن نظامها بين الضغوط الدولية ومطالب الإصلاح الداخلية المزمنة. إما أن تختار القيادة السورية الاستقواء بشعبها وتخوض غمار التغيير وإما أن تراوح عند الحذر بل عند الخوف من التغيير فتقع فريسة الانشغال بقضاياها الداخلية وتحاصرها الأزمات من كل جانب. لا نعرف الكثير عن وقائع «الفتنة» في سوريا، لكننا نعرف أن محاصرتها تبدأ بمنع اكتساب أطرافها أي عطف شعبي مهما كان نوعه أو أية «شرعية» يأتي بها القمع المادي، بل بتوسيع فعالية مشاركة المجتمع بكل أطيافه ومكوناته وعبر ممثلين حقيقيين في مساندة الدولة وحماية الوحدة الوطنية وتطوير النظام استجابة لحاجات وطموحات أوسع جمهور ممكن. لم يكن الأمن يوماً وسيلة كافية لمعالجة مشكلات سياسية طالما نعترف بوجودها، وهي مشكلات حياة لا تتوقف وليس هناك من جهة محصنة منها.
سوريا اليوم محط أنظار العرب، هنا في لبنان قد تأخذنا الأزمة السورية نحو مخاطر تصعب السيطرة عليها. وفي فلسطين وفي الأردن قد نكون أمام مصير وجودي، وهناك في مصر قد تصبح الثورة يتيمة بلا أجنحة عربية ونفقد إلى زمن طويل الحلم العربي الكبير في ما يتعدى إسقاط حكم طاغية أو نظام استبداد. لا يستحق الحياة إلا من يواكب حركة الحياة وربما يسبقها. الشعوب تتطلع إلى المستقبل ولو لم تمتلكه بعد. اختاروا أن تكونوا معها.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك