ان تذهب الى سوريا قلقا وتعود اكثر قلقا، يبدو، بالنسبة لكثيرين، الاحتمال الاكثر ترجيحا. وان تذهب الى سوريا قلقا، وتعود منها مطمئنا، سيبدو للبعض، إفراطا بالتفاؤل.
بين القلق والاطمئنان، سوريا هذه، مشغولة هذه الايام بشيئين: احتواء الاحداث الدموية الاخيرة وتقييمها، والغوص في نقاشات، صاخبة وانفعالية احيانا، لكنها ايضا متحررة من التشاؤم والتخوين والاحكام المسبقة والمزايدة، حول السبل الامثل للخروج منها... النقاش هو حول ما هو آت، وهو وشيك.
«سوريا قوية وستبقى». تكاد هذه العبارة تجمع الكل. رجل السلطة المتحمس للاصلاح كما لو انه في المعارضة، ورجل السلطة المحافظ الذي لا يحيد كثيرا عن الخط العام، ورجل الاعمال العلماني المتحامل على الكثير من الممارسات، والحزبي السابق، والصحافي القريب من السلطة بحكم موقعه، وزميله القريب منها المحتفظ بمسافة مهنية، والمثقف المسيس، ونظيره الفنان المنشغل عادة بابداعاته الثقافية، لكنه ينخرط الان، كما غيره في هذا النقاش الدائر بين السوريين.
نقاش في أعلى هرم السلطة، في القصر، كما في الحكومة وبين تيارات حزبية وسياسية مختلفة. وهو يدور في المنازل، وفي الشارع. في جلسة واحدة في مقهى دمشقي، ستجد الاصوات تعلو احيانا، كما الهمس العقلاني، والافكار تتطاير، بين مجموعة متنوعة الانتماءات. هذا الستيني، وذاك العشريني. هذا الحزبي، وذاك الناشط بلا بطاقة انتماء حزبي. بين الصحافي الهادئ وبين رجل اعمال ناشئ. عن التظاهرات، وعن الرد الامني الذي يرفضه كثيرون. عن دوافع حركة الاحتجاج، ومدى العفوية فيها، ومشروعيتها، وعن الجانب المريب فيها، او اقلها ما تثيره من قلق. عن بؤس الاداء الاعلامي الحكومي، برغم بعض رتوش التجميل المستحدثة، وعن «خبث» بعض الاعلام العربي والدولي.
يكاد شاب متحمس يقسم وهو يروي حكاية ذهابه قبل نحو اسبوعين، الى درعا للصلاة مع المحتجين، تضامنا معهم، بعد سقوط عشرات القتلى والجرحى في صفوفهم في الايام السابقة، وكيف تلقى رسالة على هاتفه الخلوي تفيد بان قناة تلفزيونية عربية تتحدث عن مقتل عشرة محتجين في درعا في تلك الساعة، بينما كان هو هناك حاضرا للصلاة، ولم تكن أي تظاهرة قد خرجت بعد !! هذا الشاب، عاد أدراجه الى دمشق مرتابا.
لكن هناك، ضحايا سقطوا، والدم على الارض في هذه المحافظة الجنوبية التي لها ما لها في تاريخ سوريا، ومنها خرجت قيادات كبرى في البلد. ولهذا لا بد من إجراءات تتراوح بين إقالة المحافظ ومعاقبة مسؤوليين أمنيين والتعزية بالضحايا وفتح تحقيق ينتظــره الكثيرون، بينما تكفلت شخصيات عشــائرية لها وزنها الاعتباري في هذه المنطقة التي كانــت دوما خزان دعم للــدولة، بمعالجة الازمة التي هزت سوريا، كما تقتضيه التقاليد المحلية.
هو ليس وقت النقاش وحده. قنوات الاتصال والحوار فتحت بالفعل على اكثر من مسار. يقول مصدر شديد الصلة بالسلطة، ان الاتصالات، على مسار آخر، بدأت منذ مدة بالفعل مع شخصيات في محافظة درعا وغيرها، يصفها بأنها «تتمتع بوزن على الارض وتجرأت على تحريك الناس في الشوارع... وبينها شيوخ مساجد... هؤلاء هم خصوم الدولة الفعليون، لكنها قررت لقاءهم ومخاطبتهم وجها لوجه... فبعض شخصيات المعارضة المعروفة اعلاميا، ونحترم بعضها، ربما تتكلم جيدا ولها افكارها الجذابة، لكن وزن حضورها على الارض مسألة محل تساؤل».
يقول مصدر آخر ان تقديراته المستقاة من دوائر السلطة، تفيد بأن سلسلة خطوات ستتخذ خلال اليومين المقبلين، بما يعطي السوريين بشكل واضح، بعد استقالة الحكومة وتكليف رئيس جديد للوزراء بتشكيل حكومة جديدة، اشارات واضحة بأن عملية تغيير كبيرة، وليس بالضرورة شاملة في الوقت الراهن، قد بدأت بالفعل.
المصدر الشديد الصلة بالسلطة، يقول ان قرارات التغيير ستصدر قريبا بإشراف مباشر من الرئاسة، أولا لطمأنة السوريين على المستقبل، وثانيا، من اجل رسم خطوط تمييز واضحة، تحدد بشكل اكثر دقة، من خرج للاحتجاج منطلقا من دوافع معيشية او مطلبية بحتة، وهو بالتالي، تحرك مشروع، ستســتجيب له السلطة، وبين من خرج، او سيخرج، من أجل أهداف اخرى للاضــرار بسوريا وأمنها.
لكن النقاش لن يكون محصورا نخبويا، ستمتد النقاشات من دوائر الحكم والحزب لتشمل فعاليات شعبية واكاديمية وعلى صفحات الجرائد وفي ورش عمل وستتناول ملفات عدة، من قانون الطوارئ ومكافحة الارهاب، وقانون الاحزاب وقانون الاعلام وملف التجنيس.
لكن الكل يدرك ان الهواجس لن تتبدد، بين ليلة وضحاها....
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك