كتب الباحث في الشؤون الماليَّة والاقتصاديَّة البروفسور مارون خاطر
يُسدَلُ السِتار على العام ٢٠٢٢، على أيَّامه المُنتهية وأوجاعه المُتزايدة وأفقَه المَسدود ومعالجاته الواهية. فَكَما تَسَلَّمَ الفَراغ العابِر للعَهد والولاية من سَلَفِهِ، يُسلِمُهُ إلى خَلَفِهِ مُضافاً إليه قصراً رئاسياً مطفأ الأنوار وسراياً حكومياً يُصَرَّف فيه الوَقت وعوداً ومجلساً نيابياً مُنقَسِماً على ذاتِ ذاتِهِ.
يُتابِع لبنان وشَعبُه سقوطهم الحُرّ نحو قَعر "جَهنَّم" التي أوقد الحكَّام ناراها عبر السنوات في الحكومات والمجالس والعهود جميعِها.يُظهِرُ المَشهَد اللبناني هوَّة عميقةً تَفصِل بين هَولِ الأزمة وتداعياتها من جِهة والخِفَّة وعَدَم الجِدّية في مقاربتها من قِبَل مَنهُم مؤتَمَنون على إدارة شؤون البلاد والعِباد وضُيوف الزَّمان والمَكان من جِهة ثانية. تقدَّم الفَراغ على جَميع خَيارات التأليف حكوميًّا والانتخاب رئاسيًّا. استَمَرَّ بعض "سُقماء النفوس" من أصحاب القرار بألاعيبهم التعطيليَّة النرجِسيَّة المُزمِنَة. سَئِمَ ضحايا تفجير بيروت وأهلهم فكَّ أسر العدالة وهي أسيرة السياسة التي لا تَخجَل حتى أمام الشهادة.حَرِفَ النظرعن الودائع المحتجزة مقابل حُفنَة دولارات مُغَمَّسَة بالذُّل التي مارسَته وتُمارسه المصارف بِحَقّ أصحاب الحقوق. ساهَمَت الحاجة المُستَجِدَّة والمُلِحَّةُ لِمصادر الطاقة بإنجاز ترسيم الحدود الجنوبية فانطلقت ورشة بناء الأحلام من تَحتِ الماء إلى حُدودِ السماء. بَقي لُغز الكهرباء عَصيٌّ على الحَلّ. حافَظَ الدولار على مَنحاهُ التصاعدي الذي خَرَقَهُ تَدَخُّل المصرف المركزي مرَّاتٍ أربع أسهَمَت في إرساء استقرار مرحلي هَشّدون أن تُمنَع معاودة الارتفاع. إنقضت أيام العَهد فَتَسَلم الفراغ السلطة من الفراغ في مشهديَّهٍ تَحَدَّت التعطيل وأمَّنت تكريس ثقافة الفراغ وحُكم الفارغين.
إقتصاديًا، قَد يُشّكّل الاتفاق الشَفَهي المبدئيّ على مستوى الخبراء مع صندوق النَّقد الدَولي الحَدَث الأبرز في العام ٢٠٢٢. ساهم هذا الاتفاقوما نَتَجَمِنهُ مِن قوانين ومشاريع قوانين في تسليط الضوء على الفراغ والفارغين معاً. ففي الشَّكل، يَبدو الاتفاق وكأنه إنجازٌ مُحَقَّق، أمَّا في المَضمون فهو لا يتعدَّى كَونَه محاولةً من قِبَل الصندوق لِحَثّ من يَحكمون لبنان وملائكتهم على سلوك طريق الإصلاح. يَشترط نصُّ الاتفاق تَنفيذ رُزمة شروط مُسبَقة تُمَهد لتثبيته نهائياً مما يجعل تطبيقه مُعضِلة صعبة لأسباب عِدةَّ. فَمِن جهة، تُناط الحلول إقراراً وتنفيذاً بِمَن كان لهم الباع الطويل في حصول الأزمة وفي تفاقمها عبر السنوات. من جهةٍ ثانية، يؤدي التزامن المقصود بين غياب الاستقرار السياسي وعدم كفاءة من يتولون إنتاج الحلول إلى تقدُّم مقاربات "هَجينة" غير قابلة للتنفيذ. بعض هذه المقاربات يتعارض حتى مع النظريات الاقتصادية وله تداعيات اقتصاديَّة واجتماعيَّة وماليَّة خطيرة. إلا أنَّ الأخطر في كل ذلك يتمثل في كون التفاوض مع صندوق النقد يتأرجح بين الانصياع الكامل لشروطه من جهة ومحاولة الالتفاف على الصندوق وشروطه من جهة أخرى. ليست خُطَّة التعافي والموازنة وقانون السرية المصرفيَّة ومشروع قانون الكابيتال كونترول إلا أمثلة حيَّة تؤكد على أنَّ الفراغ في لبنان لم يَعُد حدثاً بل بات ثقافةً وتوجهاً مُعتَمَداً.
البداية منُ خطة التعافي التي ترتكز على مبدأ "تراتبية الذِّمم" المُعتمد من قبل صندوق النَّقد. بحسب هذا المبدأ تستثني الخطَّة الدولة والمصرف المركزي ولا تحمِّلهما أيَّة خسائر بما يُشبه إصدار حُكم إعدام مرفوض على القطاع المصرفي الضالع في الأزمة والذي لا بدَّ أن يُشكل أحد ركائز الحَلّ. لا بُدَّ من الإشارة في هذا السياق إلى أن إتّباع سياسة كَم الأفواه وتَصنيف الاقتصاديين "جدداً" وقدامى في إطار بيانات الرَّد السخيفة لا يغيّر في الحقيقة شيئاً ولا يرهب أحداً في بلدٍ لم يبقَ فيه حراً سوى الكلمة. الموازنة، وهي أحَد البنود الإصلاحية الأساسية، أتت خالية بل "فارغة" ليس من الإصلاح فَحَسْب، بَل من المنطق! مِن المَعلوم أنَّ صُندوق النقد لا يتدخل في وضع الموازنات إذ إنَّ أولياء الأمر أكثر حِرصاً منه على مَصلحَة بلادهم. إلا أنَّ ذلك ليس صحيحاً في لبنان. فبهدف تخفيض العَجز،عَمَدَ فلاسفة المال والأعمال الى زيادة الضرائب والرسوم بطريقةٍ عبثية وسيئة في توقيتها وتفاصيلها. فزيادة الضرائب والرسوم لا تشكل إلا إيرادات دفتريَّة حينما يسجِّل الاقتصاد نمواً سالباً وحينما تكون الحدود فالتة. أما قانون سريَّة المصارف فأقرَّه البرلمان بعد تَعديلِهِ ليكون من حيث الشَّكل، ورُغمَ ثغراته الكثيرة، أفضل ما أنتجته المَنظومة الحاكمة. أما تَنفيذيًّا، فَسَيُحال هذا القانون إلى "مُتحَف القوانين" بعد أن يَصطدم بِسَطوَة السياسة والسياسيين على القضاء إذ أنَّ المشكلة ليست نقصاً في القوانين بل تلكؤاً من التَّنفيذ. في الأثناء، يتأخر فكُّ طلاسم مشروع قانون إعادة هَيكَلة المصارف ويَعيش مشروع قانون الكابيتال كونترول مَخاضاً عَسيراً في مجلس النواب لأسباب منها ما هو مَعلوم ومنها ما لا يَعلمهُ إلا الله.
في ٢٠٢٢ تفاقَمَت أزَماتُ لبنان وتشعَّبت إلا أنَّها بَقِيَت في أساسها سياسيَّة. لذلك لا بُدَّ للحلول جميعها أن تبدأ من السياسة. عملياً، ليس المُرتجى حَلحلةٌ اقتصاديَّة أو ماليَّة فَحَسب، بل عَقدٌ وَطَني يُرسي استقرارا سياسياً يَنتج مِنهُ انتخاب رئيس للبلاد وتشكيل حكومة تعيد النَّظَر في خطة التعافي المُقَرَّة وتَعمَل على ضَبطِ الحدود واستعادة الثقة بالدولة وبالمصرف المركزي. انطلاقاً مما تَقدَّم، من الساذَج رَبط مُستقبل علاقة لبنان التفاوضيَّة مع صندوق النقد بإقرار الاصلاحات أو بِعَدَمِهِ بل بِقدرة الأطراف السياسيَّة على إنتاج حَلّ سياسي على مستوى الوطن. فالمُهم ليس بالطبع إقرار الإصلاحات بل الالتزام بتنفيذها وهذه مُهِمَّة تتولاها السياسة تنفيذاً أو تعطيلاً.
في الوقت الفاصِل، يَستثمِر ساسة لُبنان في الفراغ والمراوغة ويُمعِنون في تمرير الوقت.
أمَا الَّشّعب، فَسالِكٌ في الظُلمة عَسَى أن يُبصِرَ نوراً عظيمًا مِن نور يَسوع المسيح الرَّب المَولود في مغارَةِ بيت لحم...
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك