كتب علي زين الدين في "الشرق الأوسط":
بسط الدولار الأميركي سيطرته شبه المطلقة على المشهد اللبناني بمجمل حيثياته المالية والنقدية والمعيشية، مدفوعا بتشابك عوامل الغموض السياسي وتوسع دائرة «عدم اليقين» التي تطال الملفات الحيوية كافة، وبما يشمل غياب أي مبادرات حكومية طارئة أو الإيعاز باتخاذ تدابير وقائية بديلة على منوال سوابق تلجأ إليها السلطة النقدية توخيا لكبح سرعة تدهور سعر صرف العملة الوطنية.
ومع مسارعة معظم التجار والباعة إلى اعتماد منظومة تسعير تحوطية تتعدى بنسب تتراوح بين 10 و20 في المئة سعر تداول الدولار في الأسواق الموازية الذي يقارب عتبة 50 ألف ليرة، ارتفع منسوب المخاوف من تأجيج محفزات الاضطرابات الاجتماعية القائمة أساسا نتيجة الاختلال الحاد بين المداخيل والحد الأدنى للمتطلبات المعيشية اليومية وانفلات مؤشر التضخم المفرط وانعدام معظم الخدمات العامة.
ووسط ترقبات لأجوبة أو توضيحات تصدر عن رئيس الحكومة نجيب ميقاتي الذي ينتظر أن يتحدث اليوم (الخميس) ويحاور مئات الاقتصاديين المشاركين في منتدى الاقتصاد العربي الذي تنظمه مجموعة «الاقتصاد والأعمال»، سعى حاكم مصرف لبنان رياض سلامة إلى طمأنة الأسواق والمتعاملين عبر تعميم قرارين للمجلس المركزي، قضى الأول كالمعتاد بتمديد العمل لشهر إضافي بالتعميم رقم 161 والخاص بالإجراءات الاستثنائية للسحوبات النقدية (استبدال الدولار عبر منصة صيرفة)، ونص الثاني على تمديد مماثل، إنما لستة أشهر بالتعميم رقم 151 الذي يتيح السحب بالليرة من الحسابات الدولارية، بسعر صرف سيرتفع بدءا من أول شباط المقبل من 8 إلى 15 ألف ليرة لكل دولار.
لكن الثابت، بحسب مسؤول مالي كبير، فإنه ومع استمرار غياب المبادرات الفعالة المرتبطة عضويا بالعجز الداخلي المشهود في مهمات إعادة انتظام السلطات الدستورية بدءا من انتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة جديدة مكتملة الصلاحيات، ستشهد التحديات القائمة المزيد من التعقيد في مندرجاتها والتكلفة في معالجاتها. وأبرزها، كما نوهت وكالة التصنيف الائتماني «موديز»، في أحدث تقاريرها، التعرض الآخذ بالارتفاع لأزمة اقتصادية ومالية واجتماعية أشد حدة، وترهل المؤسسات ونظام الحوكمة، واندثار القوة الشرائية جراء التراجع الكبير في سعر الصرف والارتفاع المطرد في مستويات التضخم.
وفي الأثناء، ترصد الأوساط المالية، وفقاً لمصادر معنية ومتابعة، تحشيدا غير مسبوق في تعدد المصادر لمحفزات الفوضى النقدية في مواقيت متزامنة، بحيث شكلت بمجموعها بيئة مثالية لحماوة المضاربات على الليرة التي تشهد سقوطا غير محدد السقوف. فيما يرجح دخول عامل شح السيولة الدولارية في الأسواق السورية على خط تعظيم حركة الطلب على العملة الخضراء في الأسواق الموازية اللبنانية.
وبرز في مقدمة العوامل المستجدة، التدفق الإضافي للسيولة النقدية هذا الشهر عبر إضافة راتبين على الراتب الأساسي ومساعدات اجتماعية وبدلات نقل، وبينها صرف بمفعول رجعي، لكل العاملين في القطاع العام الذين يربو عددهم على 300 ألف موظف ومستخدم، مما فرض على البنك المركزي ضخ المستحقات بالدولار النقدي وفق السعر المعتمد على منصة صيرفة والبالغ نحو 31 ألف ليرة. إضافةً إلى الضخ المعتمد بموجب التعميم 161 الذي يتيح لأصحاب الحسابات المصرفية استبدال النقود السائلة بالليرة بدولارات نقدية والتعميم رقم 158 الذي يستفيد منه حاليا نحو 100 ألف حساب للحصول شهريا على 400 دولار نقدا.
وبحكم هذه الآلية، تلفت المصادر المعنية، إلى الهامش المتسع والذي تعدى 15 ألف ليرة لكل دولار بين سعر منصة «صيرفة» والسعر المتداول في السوق الموازية الذي يقارب 50 ألف ليرة لكل دولار. وهو ما ينتج أرباحا فورية واستثنائية لحائزي الدولار سواء عبر منظومة دفع مداخيل القطاع العام أو عبر عمليات الاستبدال المحمومة من خلال البنوك التي تتولى عمليات الوساطة وتساهم ذاتيا وفقاً لمندرجات التعاميم في ضخ النقود لصالح الموظفين والعملاء.
لكن النتيجة المحققة لهذا التباين السعري المتسع، تنحصر فعليا في إشاعة الفوضى النقدية عبر توليد المزيد من المضاربات في أسواق القطع. فالذين يستفيدون «نظريا» من فارق سعر الصرف من موظفين وأصحاب حسابات مصرفية، لا يلبثون أن يتكبدوا مثيله وربما أكثر في تدبير احتياجاتهم المعيشية والخدمية والتي تشهد ارتفاعات في بدلاتها تفوق ارتفاعات سعر الصرف.
وبالتوازي، يتموضع البنك المركزي، وفقاً للمصادر المتابعة، على خط الشكوك المشروعة. فبصفته المرجعية الناظمة لسعر صرف الليرة والمصدر الرئيسي للضخ النقدي بالدولار، ينبغي أن يتحرك بمزيد من الشفافية والوضوح مستهدفا كبح محفزات المضاربات والفوضى، فيما تظهر الوقائع الرقمية في ميزانيته التي ينشرها مرتين شهريا، استقراراً في احتياطات العملات الصعبة لديه عند مستوى يقارب 10.5 مليار دولار، في مقابل زيادات مطردة في حجم الكتلة النقدية بالليرة الذي وصل إلى نحو 75 تريليون ليرة، طبقا لملخص الميزانية منتصف الشهر الحالي.
ويشي عدم انخفاض الاحتياط، بل ارتفاعه بمقدار إجمالي ناهز 700 مليون دولار في الشهرين الماضيين، بأن البنك المركزي يجمع بدوره الدولارات من الأسواق الموازية لتلبية مقتضيات صرف رواتب القطاع العام والطلب المحموم عبر منصة «صيرفة» الذي يتقلب بين 30 و60 مليون دولار يوميا، ولخمسة أيام في الأسبوع. وتنحو الترجيحات إلى توسيع حجم تدخله في الفترة المقبلة بعد موافقته على تغطية نحو 300 مليون دولار لصالح مؤسسة الكهرباء لقاء سداد التمويل بالليرة وفق سعر منصة «صيرفة» مضافا إليها نسبة 20 في المائة. علما بأنه لا يحوز أي ضمانات تثبت قدرة المؤسسة على الإيفاء بتعهداتها.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك