كتب النائب ابراهيم كنعان في "النهار":
يُروى أنّه في الخمسينات من القرن الماضي، نُظّمت تظاهرة مندّدة بما عُرف بوعد بلفور. وبلفور هو اللورد البريطاني الذي نُسب اليه إطلاق وعدٍ تعهدت بريطانيا بموجبه إقامة وطن لليهود في فلسطين، فانطلقت التظاهرة بشعار "فليسقط وعد بلفور" وانتهت بشعار "فليسقط واحدٌ من فوق".
تجسّد هذه الواقعة ما يحصل في عددٍ من الملفات المصيرية سياسياً ومالياً، خصوصاً على المستوى التشريعي، في ظلّ انعدام الوزن الكامل الذي نعيشه، والذي لا يعلم أحدٌ كيف يبدأ وأين، وكيف ينتهي، تماماً كتظاهرة وعد "بلفور"، لتمتلئ بعدها وسائل إعلام وتواصل اجتماعي، بفرقة "ردّيدة" غالباً ما تتجاوز بأطروحاتها الموضوع والعنوان المطروح شكلاً ومضموناً ليصحّ وصف هذه الحالة بـ"حارة كل مين إيدو إلو"، مع السياسيين الشعبويين و"المستكتبين" الذين يستغلون الظرف ويشرعون في تصفية الحسابات على حساب الحقيقة والقانون، ولو كنّا في أخطر مرحلة كيانيّة من تاريخ لبنان.
في مسألة خطة التعافي "الديابيّة" أو "الميقاتيّة"، تتجلى قمة التناقض بين ما طرحته الخطتان من أهداف، ومنها إعادة جزء من ودائع المودعين، أكان 500 ألف دولار أميركي في الأولى أم 100 ألف دولار في الثانية، بعد إعادة الهيكلة والترجمة العملية المستحيلة، إذ يتجاوز مجموع المبالغ في الأولى والثانية العشرين مليار دولار أميركي تموّل وفق الخطط المذكورة من استعادة الاموال المنهوبة وملاءة كل مصرف، ما يجعل من شعار الودائع المقدسة للبعض شعاراً كشعارات تظاهرات الزمن الغابر.
وبدل الإتفاق، ومنذ اليوم الأول، على حجم وتوزيع المسؤوليات والالتزامات (ما اصطلحوا على تسميته خسائر مع "الردّيدة" لمراعاة مصالحهم المتناقضة) بين الافرقاء المعنيين بهذا الانهيار المالي المريع من مصارف ومصرف مركزي وحكومات، للتفاوض مع المرجعيات الدولية، لاسيما صندوق النقد الدولي، أو مع الدائنين الخارجيين بعد قرار التوقف عن الدفع، وهو ما كان يجدر القيام به قبل التوقف غير المنظّم الذي تمّ، إخترعوا عناوين واتهامات ومعسكرات تستغلّ موقفاً مجتزأ من هنا لصندوق النقد وموقفاً آخر من هناك لخبيرٍ طامح.
فـ"الكابيتال كونترول"، الذي كان على الحكومة ومصرف لبنان كما المجلس النيابي إقراره بأيّ شكلٍ من الأشكال - عنيتُ دستوريّاً - منذ اليوم الأول للأزمة (زرت في شباط 2020 ووزير المال آنذاك غازي وزني وبناءً على طلبه، رئيس المجلس النيابي نبيه بري لإقناعه به بعد تأليف حكومة الرئيس حسان دياب ونيلها الثقة، ومن ثم قمت في 20 أيار 2020 مع عدد من الزملاء بتقديم اقتراح قانون معجّل مكرر بعد فشل الحكومة بإحالة مشروع قانون على المجلس النيابي كانت وعدت به وأقرّ في لجنة المال في أيار 2021 بعد انفجار المرفأ وبعدما أعادته الهيئة العامة للجنة مسقطةً عنه صفة العجلة)، بات بالنسبة الى البعض وسيلة لاسترجاع الودائع بينما هو تدبير استثنائي وموقت لمنع التحاويل إلى الخارج ولتنظيم السحوبات في الداخل. ولكن، على قاعدة "فليسقط واحد من فوق"، تكرّرت المعزوفة، خصوصاً بعد مرور ثلاث سنوات على الانهيار وفي ظلّ الامتناع الفظيع عن تحديد المسؤوليات وتوزيعها من خلال رؤية واضحة ومتكاملة من الحكومة، ما حوّل الاستثناء إلى قاعدة.
أما تعديل قانون السرية المصرفيّة، وبعد إنجازه في لجنة المال والموازنة النيابية مع مفعول رجعي بالرغم من عدم طلب ذلك من قِبل صندوق النقد الدولي، ولا من رئيس الجمهورية آنذاك في ردّه للقانون، بشكل يرفع السرية عن كل الحسابات المصرفية المتورط أصحابها بالفساد و/ أو تبييض الأموال، التهرّب الضريبي و/أو الاثراء غير المشروع وذلك أمام 4 مرجعيات على الأقل: من القضاء الى الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد وهيئة التحقيق الخاصة كما الإدارة الضريبية، بالإضافة، وللزوم إعادة الهيكلة، أمام كلٍّ من المصرف المركزي ولجنة الرقابة على المصارف ومؤسسة ضمان الودائع، خرجت الأصوات لتأخذ بعض ملاحظات صندوق النقد الدولي المجتزأة، حيث اعتبر الصندوق - في تعميم داخلي رسمي ومكتوب - التعديلات التي أقرّت أنها "تجسّد اصلاحاً كبيراً (Substantial Reform) يقرّب لبنان من الأنظمة المصرفية الشفافة وفقاً للمعايير الدولية"، ليطلق العنان لأطروحات لا علاقة لها بالقانون ولا بمضمونه، وتبعتها فرقة "الردّيدة" و"المستكتبين الجدد".
لكنّ المجلس الدستوري صادق على القانون، باستثناء فقرة لم تقرّ في الجلسة النيابية العامة. ويتبارى سياسيّون اليوم في تبخير القانون ونسبه لمجهودهم، خصوصاً بعدما ارتكزت الملاحقات القضائيّة الجارية على نصوصه.
وما قيل عن "الكابيتال كونترول" ينطبق أيضاً على قانون التدقيق الجنائي وقانون رفع السرية عن حسابات مصرف لبنان الذي تقدّمتُ به وقامت قيامة "الردّيدة" آنذاك، وعندما أقرّ هلّل المزايدون ونسبوه أيضاً لنضالهم.
وتطول اللائحة، لتشمل قوانين استعادة الأموال المنهوبة والهيئة الوطنية لمكافحة الفساد والاثراء غير المشروع… وكلّها أقرّت والعمل جارٍ على غيرها، من دون أن يحاسَب أحد ولا يُستعاد قرشٌ واحد… لكنّ العصفورية "شغّالة".
في العمل السياسي، وخصوصاً التشريعي، عليك أن تختار بين الجديّة والالتزام والحسّ بالمسؤوليّة، وبين الشعبويّة والمزايدات والنكايات. اخترتُ دوماً أن أقف مع الصنف الأول، وأنبذ السجالات غير المجدية. إلا أنّني أعترف بصعوبة المهمّة، فنحن نعيش في عصفوريّة "فليسقط واحدٌ من فوق"… وما أكثر الساقطين.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك