وجاء في عظته:
"1. عندما شفى يسوع ذاك الممسوس الأعمى والأخرس، الذي وقع ضحيّة الأرواح الشريرة، عبّر عن أنّ الإنسان هو طريقه. وقد جاء ليخلّصه من كلّ أنواع معاناته، الروحيّة والمعنويّة والإجتماعيّة. وقال: "لقد وافاكم ملكوت الله" (متى12: 28).أيإنّ يسوع المسيح الإله المتجسّد دخل تاريخ البشر، وأصبح رفيق الدرب لكلّ إنسان، ليفتديه ويخلّصه، ويجعله بالتالي طريق الكنيسة. إنّ كلّ عمل سياسيّ لا يهدف إلى خدمة الإنسان وتأمين حقوقه الأساسيّة يفقد مبررّ وجوده.
يسعدنا أن نحتفل معكم بهذه الليتورجيا الإلهيّة فأحيّيكم جميعًا، ونصلّي معًا ملتمسين النعمة كي ننتصر بها على تجارب الشيطان، وعلى مسّ الأرواح الشريرة، ونعمل معًا لخير كلّ إنسان روحيًّا وماديًّا وثقافيًّا واجتماعيًّا.
2. إنّ الربّ يسوع، بآلامه وموته وقيامته، حقّق الخلاص التام والنهائيّ، وانتصر على الشيطان مسبّب الخطيئة، وحاملٍ الإنسان على ارتكابها بالغشّ والاحتيال والاستمالة. وبات المسيح الربّ المخلّص المطلق لكلّ إنسان. وباسمه يستطيع المؤمن الانتصار على تجارب الشيطان، والاستيلاء على الأرواح الشريرة.
3. فعل الشيطان والأرواح الشريرة نوعان: فعل عاديّ بواسطة التجربة من باب الشهوة المثلّثة الكامنة في الإنسان، وهي شهوة العين وشهوة الجسد وكبرياء الحياة (راجع 1يو 2: 16). وفعل خارق العادة بالمسّ الشيطانيّ الذي يحصل إمّا بواسطة اضطرابات حسيّة في جسد الانسان الممسوس، وإمّا بواسطة أفكار استحواذيّة ودوافع داخليّة ترمي إلى الإستسلام وتجربة الانتحار، وإمّا بواسطة توتّرات عصبيّة تقود الممسوس إلى فقدان الوعي الذاتّي، والقيام بأفعال أو التلفّظ بكلمات ضدّ الله والمسيح والعذراء والقدّيسين، وإمّا أيضًا بواسطة تأثيرات على الأشياء والحيوانات.
ولكن يجب التمييز بين المسّ الشيطانيّ والأمراض النفسيّة والعصبيّة. فلا بدّ في هذه الحالة من استشارة الأخصّائيّين.
إنّ المسّ الشيطانيّ يقتضي "صلاة التعزيم لطرد الأرواح الشريرة"التي قال عنها الربّ يسوع في إنجيل اليوم: "أنا بروح الله أخرج الشياطين". صلاة التعزيم (exorcisme) هي التي تلتمس بها الكنيسة علنًا وبقوّة سلطانها، باسم يسوع المسيح، حماية الأشخاص من قبضة الشيطان والأرواح الشريرة ونفوذهم؛ وتلتمس طردهم وإعتاق النفس من استحواذهم.
ويدعو الربّ يسوع في إنجيل اليوم إلى الإيمان بقوّة روحه القدّوس على تحرير الأنفس من تجارب الأرواح الشريرة ومسّهم، لأنّهم بهذا الإيمان يلجأون إلى إلتماس قوّة الروح ليتحرّروا ويخلُصوا، وإلّا ماتوا في حالة بؤسهم. هذا ما يعنيه قول يسوع: "لهذا أقول لكم: تُغفر للناس كلّ خطيئة تجديف، أمّا التجديف على الروح القدس، فلا يُغفر "(متى 12/ 31). لا لأنّ الله لا يغفر، بل لأنّ المجدّف يرفض قدرة روح الله، فلا يلتمسها.
4. بالنسبة إلى يسوع المسيح، المخلّص والفادي، الناس فئتان: الأوّلى منفتحة عليه بالقلب وتؤمن به وبكلامه. هذه الفئة من الناس هي فئة الشعب الطيّب الحرّ داخليًّا الذي عندما شاهد آية شفاء ذاك الممسوس الأعمى والأخرس، رأى في يسوع "المسيح الآتي"، وقال:"لعلّ هذا يكون إبن داود"(متى 12: 23)؟
أمّا الفئة الثانية فهي فئة المتكبّرين الممتلئين من ذواتهم الأنانيّين، المتمثّلين بالفريّسيّين الذين اعتبروا أنّ يسوع بقوّة الشيطان شفى ذاك الممسوس.
الفئة الأولى ترى الخير في الآخرين كعطيّة يمجّدون الله عليها، وتعتبره مساهمة في الخير العام، أمّا الفئة الثانية فيتآكلها الحسد عند رؤية الخير في الآخر، وتظنّه منافسًا لها، وتعمل على إضعافه وإزالته.
5. هذا الواقع نجده بكل أسف في مجتمعنا اللبنانيّ بنوع خاص. ولهذا السبب تتعطّل مسيرة الدولة بمؤسّساتها الدستوريّة والعامّة، ويُعرقل عمل المخلصين، وتطغى المصالح الفرديّة والحزبيّة والفئويّة على الصالح العام وخير المواطنين، وتتوسّع شبكة الفساد والمفسدين والمستولين على المال العام الذين يسمحون لأنفسهم بهدره وتبذيره وتبديده، ولا من حسيب أو رقيب.
ولذا، إنّ التدابير التي تتّخذُها الدولةُ تُفاقِم الوضعَ سوءًا. فنرى الفَقَر يزدادُ، وكذلك الجوع وفِقدانُ الغذاءِ والدواءِ والمحروقات. نرى الكهرباءَ تَنقطعُ أكثر، وأيضًا الماء وجميع مستلزماتِ الحياةِ الطبيعية. صار إذلالُ الناس جُزءًا من اليوميّاتِ فيما الكرامةُ هي شيمتُنا. لا تُحلّ مشاكلُ المواطنين بمدِّ اليدِ إلى ودائعِهم الماليّة، بل بتحرير القرار السياسيّ، واتّباعِ نهجٍ وطنيٍّ وديبلوماسيٍّ وأمنيٍّ مختلف، نهجٍ يَفتح آفاقَ الحلولِ الصحيحة، ويأتينا بالمساعداتِ الماليّةِ، ويُعيد لبنانَ إلى دورةِ الاقتصادِ العالميّ، ويخرجه من محور العُزلةِ المناهضِ لمصلحته، بينما موقعُ لبنان الطبيعيُّ هو الحِيادُ الإيجابيّ الناشط بحسن العَلاقةِ مع الجميع، وبلعب دور الإستقرار في المنطقة، وتعزيز القضايا المشتركة.
6. في هذا السياق، إنَّ الفعاليّات التجاريّةَ والاقتصاديّةَ والفئات التي تَستورد الموادَّ الغذائيّةَ والطبيّةَ والدواءَ مدعوةٌ هي أيضًا إلى التصرّفِ بمسؤوليّةٍ وروحٍ إنسانيّة. فالزمنُ ليس زمنَ الأرباحِ الطائلةِ على حسابِ معاناةِ الشعب. إنّنا، وإن كنّا ندري بالصعوباتِ الماليّةِ الناتِـجةِ عن تقلّبِ أسعارِ العُملات الأجنبيّة، فلا شيءَ يُبرّرُ اختفاءَ الموادِّ الاساسية والضروريّة، ولا هذا الغلاءَ الفاحش، ولا الفروقاتِ الهائلةَ في الأسعار.
7. نَتطلّعُ إلى أن تجريَ الاستشاراتُ النيابيّةُ غدًا وتُسفر عن تكليفِ شخصيّةٍ وطنيّةٍ إصلاحيّةٍ يَثِقُ بها الشعبُ اللبنانيُّ المنتفِضُ والباحثُ عن التغييرِ الحقيقي، ويرتاحُ إليها المجتمعان العربيُّ والدوليُّ المعنيان بمساعدة لبنان للخروج من ضائقته المادية ومن الانهيار.
ونُهيب بكل المعنيّين بموضوعِ التكليفِ والتأليفِ أن يتعاونوا ويُسهِّلوا، هذه المرّة، عمليّةَ تشكيلِ الحكومة سريعًا، فلا يُكرّروا لعبةَ الشروطِ والشروطِ المضادّةِ وبدعةَ الاجتهاداتِ الدستوريّةِ والتنازعِ على الصلاحيّات. الوضعُ لا يَحتملُ البحثَ عن جنسِ الحقوقِ والصلاحيّاتِ، والبلدُ يَسقط في الفَقرِ، وتَنتشر فيه الفوضى، وتَترنّح مؤسَسات الدولة. فما قيمةُ حقوقِ الطوائف أمام الخطر الداهم على لبنان. أليس "لبنانُ أوّلًا"؟
ونطالب المسؤولين بأن يَنتهوا من تأليف الحكومةِ قبل الرابع من آب، تاريخِ تفجيرِ مرفأ بيروت. ونقول لهم: لم تُقدِّموا إلى الشعب الحقيقة، فقدِّموا إليه، على الأقلِّ، حكومة. اسمعوا أنينَه وصرختَه، احذَروا غضبَه وانتفاضتَه. لا يمكن الإستمرار في محاولات التهرّب من العدالة إذ نرى البعض غيرَ عابئ بدماء من سقطوا ولا يقيم شأنًا لهذه الكارثة التي غيّرت وجه لبنان. إن جميعَ التبريرات التي تُقدَّمُ لا تُقنِع أحدًا رغم قانونيّة البعض منها، لأن هناك من يَتذرَّع بالدستورِ للالتفافِ على العدالة. ولهذا السبب طالبنا، إذا اقتضى الأمر، بتحقيقٍ دوليٍّ يَضع الجميعَ أمام مسؤولياتِهم ويحول دون تهرب أي متهم.
8. فيما نحن على موعد الإحتفال بالذبيحة الإلهيّة على المرفأ في الذكرى السنويّة الأولى لحدوث الإنفجار الذي دمّر البشر والحجر، نضمّ إلى ذبيحة المسيح الفادي الضحايا والجرحى وآلام عائلاتهم ومعاناة التهجير، سائلين الله أن يجعلها كلّها ثمن قيامة لبنان. للإله الواحد والثالوث، الآب والإبن والروح القدس، كلّ مجدٍ وتسبيح، الآن وإلى الأبد، آمين".
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك