كتب ياسر هلال في "طاقة الشرق":
بعيداً عن تهويل إسرائيل بتهجير أهل غزة وتدمير حركة حماس. وبعيداً عن تهليل الممانعة للانتصار الساحق، ومحاولة توظيفه أو “تقريشه” في المفاوضات مع أميركا. فقد أثبت العدوان على غزة حقيقتين؛ الأولى أن الشعب الفلسطيني بكل تلاوينه السياسية عصي على الهزيمة. وعصي على التوظيف السياسي والمذهبي. وأثبت أن فلسطين لا تشيخ وستبقى “حبالة ولادة” بأجيال متشبثة بالأرض والحق بالحياة.
الحقيقة الثانية أن إسرائيل كيان هش تفوق بضعف “أعدائه” وليس بقوته. وأنه يتحول خلال أقل من أسبوعين من دولة متفوقة في مجالات السياسة والاقتصاد وتكنولوجيا المعلومات والغاز الخ… إلى مجرد قاعدة عسكرية يديرها جنرال أميركي بعد فشل قادة جيشها في إدارتها. ويتحول من محور إقليمي اقتصادي وتجاري ونفطي، إلى كيان معزول يحتاج “فزعة” أميركية ـ غربية وتدخلاً عسكرياً مباشراً لإنقاذه وإعادة تثبيت دوره.
وعليه يصبح السؤال المنطقي، هل يشكل مزيج “غزوة” 7 أكتوبر مع موجة جنون القتل والتدمير، نقطة تحول في السياسة الأميركية. باتجاه اعتماد حل الدولتين بعد تفكيك عدد كبير من المستوطنات لإيجاد أرض تقام عليها دولة فلسطين. وهو الأمر الذي يتطلب إحداث تغيير جذري في التركيبة السياسية الإسرائيلية. وتغيير جذري مشابه في التركيبة السياسية الفلسطينية. بمعنى إزاحة اليمين المتطرف الذي حكم إسرائيل منذ اغتيال إسحاق رابين، وإزاحة الحركة الجهادية التي تزامن صعودها مع الاغتيال. حيث تقاطعت مصالح الطرفين على تعطيل عملية السلام.
التسوية تحقق مصالح أميركا
ما يعطي السؤال مشروعيته، هو أن الشرق الأوسط يعتبر حالياً منطقة نفوذ صافية للولايات المتحدة. وذلك بعد تراجع أو اضمحلال التأثير الروسي. وفي ظل عدم رغبة وقدرة الصين على التورط في نزاعات المنطقة. إلا إذا افترضنا أن إيران هي القوة المنافسة لأميركا بدلاً من روسيا والصين، وهو افتراض عقيم .. لا يستقيم. وبالتالي، فإن أميركا والدول الغربية عموماً باتت أمام خيارين شديدي الوضوح، وهما إما الدفاع عن التركيبة الإسرائيلية والتضحية بمصالحها ونفوذها في المنطقة، وإما التضحية بهذه التركيبة.
وبهذا المعنى يصح القول أن أميركا ستضع كل ثقلها لإحداث التغيير الجذري المطلوب. وطبعاً ستكون الأولوية للتغيير على المستوى الفلسطيني. وذلك عن طريق إلحاق هزيمة مؤكدة بالجناح العسكري لحركة حماس. وهو المصطلح المرجح أن يطفو على السطح في قادم الأيام. كمقدمة لإعادة تشكيل السلطة الفلسطينية التي ستضم قطعاً الجناح السياسي للحركة ببعده العقائدي ـ المالي (تركيا وقطر) وببعده السياسي ـ الأمني (مصر).
أما على المستوى الإسرائيلي، فيمكن القول أن حمام الدم الذي يغرق غزة حالياً، سيغرق أيضاً نتنياهو واليمين المتطرف الرافض لفكرة إقامة الدولة الفلسطينية. كما أن الهزيمة المذلة للجيش الإسرائيلي، وانهيار ثقة المستوطنين بقدرة هذا الجيش على توفير الحماية والأمن لهم، تشكل عاملا رئيسياً في إحداث التغيير المنشود. وهذا الشك في قدرات الجيش، ظهر في حرب 2006. وتمثل بحالة الإرباك وتقاذف المسؤوليات بين “المستويين” العسكري والسياسي. وقد تنفع في هذا السياق إعادة قراء تقرير فينوغراد. يضاف إلى ذلك العامل الأهم وهو اهتزاز ثقة مجتمع الأعمال والمستثمرين والكفاءات والمهنيين والمهاجرين بإمكانية الاستثمار والعيش في ظل “هكذا دولة”.
“كيان هش”
لوضع هشاشة هذا الكيان في إطار المعلومات والأرقام بعيداً عن العواطف والتنميات. نشير إلى جملة حقائق وأهمها: أن تلك “الدولة” المتفوقة احتاجت يوم 7 أكتوبر لأكثر من 24 ساعة لمعرفة (فقط لمعرفة) ماذا يحدث في مستوطناتها، بل في مقر قيادة “فرقة غزة”. واحتاجت 24 ساعة لتحريك أول طائرة هليكوبتر للرد على اقتحام حدودها و”احتلال أراضيها”. وخلال أقل من أسبوع على حرب غير متكافئة بكل المقاييس، بل حرب من جانب واحد، انهارت الدعائم الاقتصادية والمعيشية لهذا الكيان المتفوق، بسبب رشقات صواريخ بدائية محلية الصنع بالغالب الأعم.
لندع الخسائر الفادحة في القطاعات الرئيسية مثل قطاع تكنولوجيا المعلومات الذي يشكل أكثر من نصف قيمة الصادرات الإسرائيلية البالغة 165 مليار دولار. حيث أقدمت الشركات الكبرى على وقف أعمالها بسبب هروب بعض موظفيها واستدعاء بعضهم الآخر للحرب. أو خسائر قطاع السياحة التي تقارب 6 مليارات دولار. أو التكاليف المباشرة للحرب التي تقدر بنحو 400 مليون دولار يومياً.
إعادة إسرائيل إلى الفحم الحجري
نكتفي بالإشارة إلى قطاع الطاقة الذي بات ركناً رئيسياً في الاقتصاد. فإسرائيل هددت بإعادة غزة إلى العصر الحجري. وقد يتحقق ذلك أو لا يتحقق. ولكن ما تحقق فعلاً هو أن إسرائيل عادت إلى الفحم الحجري والنفط لتوليد الكهرباء في الأسبوع الأول من العدوان على غزة. فقد أعلنت وزارة الطاقة في 9 أكتوبر، وقف العمل في حقل تمار الذي يبلغ إنتاجه حوالي 10.2 مليار متر مكعب، ويؤمن نحو 70 في المئة من حاجة إسرائيل لتوليد الكهرباء. ثم أعلنت في 10 أكتوبر وقف ضخ الغاز في خط أنابيب شرق المتوسط (EMG)، الذي يربط مدينة عسقلان بالعريش في مصر.
أما الأدهى من ذلك، فهو احتمال إقفال الحقول الشمالية. وتضم حقل ليفياثان الذي يعتبر درة التاج في صناعة الغاز الإسرائيلية. إذ يبلغ إنتاجه حوالي 11.5 مليار متر مكعب. ويشكل تعطل قطاع الغاز في إسرائيل ضربة قاصمة. لأن حصة الغاز ارتفعت من صفر في المئة عام 2000 إلى 40 في المئة من إجمالي مزيج الطاقة حالياً. وإلى 75 في المئة من توليد الكهرباء. كما يشكل تعطل هذا القطاع ضربة أكبر لطموحات وخطط إسرائيل لتكون المحور الإقليمي للغاز في شرق المتوسط، ولإندماجها في اقتصاديات المنطقة.
ومعروف أن كل بنية الغاز بتكاليفها البالغة عشرات مليارات الدولارات، يمكن تعطيلها برشقة صواريخ لا تتعدى تكاليفها بضعة آلاف الدولارات. وخطورة هذه الحقيقة تتجاوز اضطرار إسرائيل للعودة لاستخدام الفحم والنفط لتوليد الكهرباء. لتطال اهتزاز ثقة الشركات في الاستثمار بقطاع الغاز الإسرائيلي. فهذه الشركات رغم ارتباطاتها السياسية، فهي “تشتغل بيزنس”.
الحل من إيران بخط إيلات ـ عسقلان
لكن حتى استيراد النفط سيواجه مشكلة أكبر. فإسرائيل كما هو معروف لديها محطتين للتكرير واحدة في حيفا بطاقة انتاجية تبلغ 200 ألف برميل يومياً والثانية في أشدود وطاقتها 110 آلاف برميل. وتعتمد إسرائيل في استيراد النفط على ميناء عسقلان الذي يمتاز بقدرة تخزين تبلغ 2.3 مليون متر مكعب. ولم يكن مصير هذا الميناء أفضل من مصير حقل تمار. فقد أدت الحرب إلى وقف العمل فيه وفي مصفاة أشدود. ومع أنه لم يتم إعلان الإغلاق رسمياً، حفاظاً على الروح المعنوية للاسرائيليين، فقد بدأت إسرائيل بتحويل شحنات النفط إلى ميناء إيلات. ونقلت وكالة بلومبرغ أن ناقلة النفط Seaviolet المحملة بنحو مليون برميل نفط من أذربيجان، تم تحويلها إلى ميناء إيلات بتاريخ 20 اكتوبر.
وليصبح خط إيلات ـ عسقلان هو الحل الوحيد المتاح أمام إسرائيل. وهذا الخط بدأ تشغيله كمشروع مشترك بين إيران وإسرائيل في العام 1968 لزيادة صادرات النفط الإيراني ولتزويد إسرائيل بحاجتها من النفط. وتوقف العمل به بعد الثورة الإسلامية في إيران وقيام إسرائيل بمصادرته. وتم في العام 2000 توسيع الخط ببناء خط مواز عكسي (عسقلان - إيلات) لنقل النفط من روسيا وأذربيجان والقوقاز إلى آسيا. ولم تستخدم إسرائيل ميناء إيلات لاستقبال واردات النفط الخام منذ عدة سنوات. ولكن يبدو ان “الكيان المتفوق” قد يعجز عن حماية هذا الخط واستخدامه كما عجز عن حماية واستخدام ميناء عسقلان ومصفاة أشدود. فقد سقط يوم 22 أكتوبر الجاري أول صاروخ قرب ميناء إيلات حاملاً رسالة بالغة الدلالة.
… لنختصر التطورات المرتقبة بتساؤلين:
هل تضحي أميركا بمصالحها، أم باليمين الإسرائيلي بقيادة نتنياهو؟
هل تضحي فلسطين بفرصة إستعادة الأرض وبناء الدولة، أم بالجناح العسكري لحماس بقيادة السنوار؟
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك