المطران مطر: لن نسكت أبداً عن حقّ الناس
25 كانون الأول 2018 16:39
احتفل رئيس أساقفة بيروت للموارنة المطران بولس مطر، بقداس الميلاد المجيد، قبل ظهر اليوم في كاتدرائية مار جرجس في بيروت، وعاونه فيه النائب العام لأبرشية بيروت المونسنيور جوزف مرهج والمونسنيور إغناطيوس الأسمر والأبوان كريم حداد وداود أبو الحسن.
شارك في القداس وزير الثقافة في حكومة تصريف الأعمال غطاس الخوري، النواب: نديم الجميل، ماريو عون، الياس حنكش وإدي أبي اللمع، رئيس المجلس العام الماروني الوزير السابق وديع الخازن على رأس وفد من المجلس، الوزير السابق جو سركيس، النائب السابق إيلي عون، شخصيات سياسية وحزبية وإجتماعية وممثلو هيئات قضائية ونقابية وراعوية ومصلون.
وكان مطر قد احتفل بقداس نصف الليل، وألقى عظة تحدث فيها عن الميلاد ومعانيه، وقال للحضور: "عيد الميلاد هو عيد الفرح العظيم. هذا ما أعلنه الملاك للرعاة يوم ولد المخلص في مغارة بيت لحم. إنه عيد انحناء السماء على الأرض بالرحمة والمحبة، وعيد استقبال الأرض لعطية السماء بالعبادة والشكر. هو عيد اتضاع الرب يسوع المسيح، ابن الله الأزلي المولود من الآب قبل كل الدهور ومن مريم في ملء الزمن، ودخوله إلى تاريخنا البشري ليحوله من تاريخ وصمته الخطيئة بالضياع والعداوة والموت إلى تاريخ تجمله النعمة بالهداية والمحبة والحياة.
ولقد جاء هذا التجسد الإلهي تحقيقا لأول وعد قطعه الله بخلاص الإنسان، على ما جاء في سفر التكوين من الكتاب المقدس عندما كلم الحية الممثلة للشيطان، والتي أغوت آدم وجرته مع زوجته إلى العصيان، بقوله لها: "سأجعل عداوة بينك وبين المرأة، أي العذراء مريم، وبين نسلك ونسلها، أي المسيح، وهو يسحق رأسك" (تكوين 3: 15)".
أضاف: "هذا هو إيماننا بطفل المغارة الآتي إلينا في هذا العيد. لأجله أضيئت المدن والساحات، ولأجله زرعت الأشجار مزينة بألوان الرجاء في صدور البيوت، ولأجله يتبادل الناس الهدايا إشارة إلى أنه هو الهدية الكبرى من الخالق إلى خليقته. به يطل الوعد الأجمل بتغيير وجه الكون نحو الأفضل والأسمى، ومعه يطلق الرجاء في الدنيا من جديد، مهما اسودت الآفاق بها وتعثرت الدروب. هو الذي يحمل للإنسانية الحب فداء لنفوسنا، ودواء شافيا ليأس من حالنا. أما الفرح الذي يدخله إلى القلوب فهو أعمق وأبهى من فرح مريض يشفى من حالة مستعصية، ومن فرح أسير في غياهب السجون يطلق سراحه، ومن فرح مظلوم يعاد حقه إليه بأعجوبة ما كان لها توقع".
واستطرد قائلا: "غير أن هذا العيد، إذا أردناه أن يعطي ثماره في حياتنا، يتطلب منا أن نلتقي شخصيا بيسوع المسيح وأن نتكلم معه ونفرغ أمامه مكنونات صدورنا. ومن أجل حصول هذا اللقاء، نحن مدعوون لأن نقصد طفل المغارة كما قصده الرعاة الذين استدلوا عليه من الملائكة المهللين بميلاده في سماء بيت لحم، فننضم إليهم مرتلين من كل قلوبنا: "المجد لله في العلى وعلى الأرض السلام والرجاء الصالح لأهل رضاه". كما أننا مدعوون لأن نقدم له مع أحر صلواتنا كامل محبتنا التي تمثل كياننا المرتبط بكيانه. فنجدد إيماننا به وولاءنا له معترفين أنه هو الذي يملأ حياتنا نورا وإراداتنا عزما على العمل بمشيئته واتباع وصاياه.
وإذا ما أتممنا هذا اللقاء بيسوع المسيح، وسجدنا لتواضعه العجيب من أجلنا، وجددنا في قلوبنا الإيمان بأن هذا العالم ليس محكوما عليه حتما بالفشل بل هو موضوع محبة لا متناهية من الطفل الإلهي الآتي لكي يعيد له صورته المشرقة، فإننا سنجد أنفسنا مشدودين للعمل مع المسيح ومن أجله، لكي يتحقق خلاص العالم ويظهر فيه كاملا ومتكاملا ملكوت الله. فالمعادلة الكبرى هي هذه: من يحب المسيح يعمل معه ويسعى من أجله".
وأردف: "بهذا المعنى ذكرنا قداسة البابا فرنسيس في مطلع زمن الاستعداد في هذا العام لعيد الميلاد المجيد، بأن هذا العيد هو إحياء تذكار لحدث تم في الزمن. وذكرنا أيضا بأن الإيمان يعلمنا عن مجيء المسيح ثانية في آخر الدهر وبمجد عظيم، ليرد الملك إلى أبيه ويتم مشيئته في الخليقة كلها. فيصير الزمن الفاصل بين المجيء الأول للمسيح وبين مجيئه الثاني زمن تحقيق العمل الخلاصي الذي بدأه يسوع والذي يريد أن يكمله معنا، وبواسطة أعمال يمنحنا أن نقوم بها بقوة نعمته.
لقد أمرنا الرب يسوع، على سبيل المثال، بدعوة الناس جميعا إلى الأخوة الشاملة. وقد وهبنا بتجسده فرصة لنصير جميعنا أخوة له وأبناء لأبيه الذي في السماء. أفلا نلتزم رسالة الأخوة هذه فنعمل على تحقيقها محوا لكل عداوة ولكل رفض للآخر، كون هذه هي مشيئة الله؟ إن هذا المنحى في العمل وفي الفكر هو المنحى الذي يريد يسوع إدخاله إلى العالم. ونحن لن نكون من أهل الميلاد حقا ولن نفرح فرحه كاملا إلا بمقدار ما نشهد لهذه الأخوة بصدق حيال جميع الناس، دون أن نتنكر لمستلزمات الحق والعدل، فهذه صفات تتآلف مع الأخوة ولا تنفيها".
وتابع: "ولقد أمرنا الرب يسوع بأن نهتم بصورة خاصة بفقراء الدنيا وبالمهمشين في ساحات الوجود، وأن نسمع أنين المجروحين في كراماتهم وأن نعتبر هؤلاء جميعا أخوته هو أو أخوته الصغار، كما يقول في الإنجيل المقدس. فهل يمكننا أن نكون من أهل الميلاد وأن نفرح أفراحه إذا ما رفضنا الواجب الإلهي بإسعاف هؤلاء المطروحين على هامش السيرة؟ إن محبة الله العظمى التي تجلت بيسوع المسيح يجب أن تتجلى أيضا في كنيسته التي هي جسده وفي أعمال الرحمة التي تقوم بها هذه الكنيسة، وإلا أنكرت ذاتها وتركت محبة ربها، لا سمح الله.
ولقد أمرنا الرب يسوع أيضا بأن نبني في كل مدينة من مدن البشر مدينة الله، أي مدينة العدل والإنسانية والمساواة بين الجميع. أفلا ينبغي أن نعمل معه ومن أجله كما عمل له الأنبياء، كي يتجلى مجده في كل الأرض؟".
وقال: "نحن لسنا حياديين في هذه الدنيا تجاه قضاياها المحقة والعادلة، ولسنا مستقيلين من الجهد والتضحية من أجل أن تتبلور في الكون إنسانية جديدة. فلهذا ولد المسيح في بيت لحم، وعاش في الناصرة وبشر في القرى والمدن ومات في أورشليم وقام لينهض معه العالم ويحيا حب الله ورحمته إلى الأبد".
أضاف: "وكما أن المسيحية هي التزام لقضايا العالم المحقة كذلك هي التزام في كل وطن تحل فيه وتشارك سائر أهله في الحفاظ عليه. فإذا أخذنا بهذا الاعتبار وطننا العزيز لبنان، فإنه لا يسعنا اليوم إلا أن نأسف لضياع الفرصة الأخيرة التي تسنت لنا برؤية حكومة جديدة لبلادنا تبصر النور، والتي أضيعت علينا فجأة، ودون أن نعرف كيف أو لماذا كان هذا الفشل الغريب. وقد قيل يوما أن النجاح له آباء كثيرون أما الفشل فيتيم. وإن ما يزيدنا حزنا هو أن هذه النكسة الأخيرة قد حصلت بعد سبعة أشهر من المعاناة ومن هدر للفرص أمام وطن يحيا تحت الخطر الشديد بضياع نفسه وهلاكها؟
وكنا تابعنا بصلاتنا كل الجهود التي بذلت في سبيل تأليف الحكومة ولكن أيضا بالألم الذي يعصر القلوب لغياب معيار جوهري أساس كان يجب أن يراعى قبل غيره في تشكيل الحكومات ألا وهو معيار مصلحة الناس واعتبار السياسة خدمة لهم وليس استخداما. وأن موضوع توزيع الحصص بين القيمين لا يطرح نفسه فقط إبان تأليف الحكومات بل هو يصبح أكثر خطورة في ممارسة الحكم، فتتحول السلطة إلى خادمة للمنافع الخاصة أو الفئوية أو الطائفية وكلها على حساب وحدة الوطن وتقدم العمل العام فيه نحو الرقي المطلوب في بلد يرى فيه العالم بلدا "رسالة".
وتابع: "إن شعبنا في لبنان قد افتقر افتقارا شديدا فتبخرت منه طبقته الوسطى التي كانت ذخرا لقوته وعزته. ولم يعد قادرا من دون الدولة على تعليم أولاده، ونحن لن نسكت أبدا عن حق الناس في هذه المساعدة. هذا وقوى لبنان الحية تغرق في البطالة بنسبة غير مسبوقة، واقتصاده على حافة الانهيار وماله العام لا حرمة له أمام المتطاولين، فيما العالم ينظر إليه نظرة حب مقرونة بنظرة غضب لقلة المسؤولية عند الكثيرين من مسؤوليه. لكل ذلك نسأل القيمين على البلاد رحمة بها وبالعباد، والتفافا حول فخامة رئيس الجمهورية ومعاونيه الأعزاء، وهو النقطة المضاءة والمعلم النير في هذا الاكفهرار العام لحالة الوطن، فتبدأ عملية الإنقاذ دون هدر لأي وقت إضافي بعد، وتتم الأمور المرجوة وتعود البلاد إلى سابق عزها وعزتها إن شاء الله".
وختم: "فلنستلهم ميلاد الرب يسوع، لابسين من أجل لبنان رجاء جديدا. ولنسأل الله نعمة تحل علينا لننهض صفا واحدا إلى إنقاذ وطننا. فيولد لبنان من جديد إلى الحياة ويكون لنا بعودته عيد عظيم لخلاصه من محنته ولدخوله المشتهى إلى ساحة الدول القادرة وصانعة المستقبلات. وليعد الرب عليكم مثل هذا العيد الفارح أعيادا تلو أعياد، وأنتم بخير ووطنكم سليم معافى والمنطقة من حولكم بأمن وسلام، ساكبا عليكم وعلى عيالكم في كل مكان فيضا من نعمه وبركاته. آمين".