"عرس بكركي": هكذا يريدون الراعي، فكيف سيكون ؟
نبيل بومنصف
19 آذار 2011 07:43
حين يخلد البطريرك مار بشارة بطرس الراعي الى رياضته الروحية، من اليوم الى يوم تنصيبه في 25 آذار الجاري، لن يفارقه على الأرجح شريط الأيام الخمسة التي لم يعش مثلها سابقاً في سائر مراحل مسيرته الكنسية.
خمسة ايام في بكركي بعد الانتخاب كانت "من حظ" لبنان وكرسي البطريركية لأن الحدث الكنسي ملأ كل الفراغ السياسي والوطني. بكركي في عرس والجمهورية في خواء. هكذا بدا المشهد على طرفي نقيض، وهكذا فهم من استعصى عليه فهم سر ارتباط الموارنة واللبنانيين ببكركي، هذه المعادلة الثابتة.
تلهث مؤسسات الجمهورية المتعبة عاجزة عن ملء فراغ الحكومة والسلطة وسط اختناق آخذ بالتعاظم، فيما حل الروح القدس على المؤسسة الكنسية التاريخية والمجمع الانتخابي صبيحة الثلثاء 15 آذار 2011 مؤذناً بانتخاب البطريرك السابع والسبعين. ومن يومها وبكركي في عرس تصاعدي والجمهورية في بكم بائس.
من سائر أقطاب الجمهورية وانحائها و"اعمالها" و"اقاليمها" وحتى "دويلاتها"، تقاطرت الوفود وأغرقت ساحات بكركي وباحاتها وصالوناتها، فغدت قبلة شعبية تذكر بالسطوة الهائلة لهذا الصرح على الحياة الوطنية والسياسية والاجتماعية للمسيحيين واللبنانيين، وجعلت البطريرك الجديد في مواجهة ما يُعتقد انه فاجأه كما فاجأ سواه.
وبدت الحلقات الشعبية الموصولة من الصباح الى المساء. في يوميات التهاني الماراتونية، اشبه بزحف شعبي وسياسي ذي نكهة مختلفة محمول برياح الانتقال السلس والهادئ والبالغ الدلالة من البطريرك السلف الأكثر ذيوعا للشهرة الى البطريرك الخلف الآتي من عالم الاضواء والنجومية.
ولعل السوابق في تاريخ بكركي لا تختلف كثيراً عما جرى في الايام الخمسة، اذ ان بكركي تقيم على تاريخ طويل من هذا الاستقطاب البرّاق لدى انتخاب بطاركتها.
ومع ذلك، المكابر وحده يغفل عن أبعاد استحضار هذا "العرف" وما يحمله من "بهجة" بازاء النزعة الى التغيير ولو في صرح يتميز بأن معايير التغيير في سدته غالبا ما تستند وترتكز الى ثوابت الثبات لدى الاسلاف السابقين، وإلا بطلت بكركي ان تكون ما هي عليه.
فما كاد البطريرك الراعي يمسك بالعصا البطريركية حتى وجد نفسه بعد الايام الخمسة فقط امام احدى غرائب اللوحات اللبنانية التي لا يشبهها اي صنف مماثل في اي بلد، تعددياً كان أم أحادياً، في المحيط العربي وطبعاً في العالم الآخر.
كلٌ يريد البطريرك على هواه، وكلٌ يريده لنفسه. وكلٌ يحتكره سلفاً. وكلٌ يلبسه وشاح بواطنه.
ولعل وفود الرهبان والراهبات والمدارس والطلاب والمواطنين "العاديين" وحدها بدت الأصدق تماماً في لهفتها الى ملاقاة الحدث الكنسي، فيما اختلفت الرؤية تماماً لدى معاينة "قاطرات" السياسيين والزعامات، على بهجة "الاجماع" الذي حققه الآتي الجديد الى كرسي بكركي.
أمعن رموز الطبقة السياسية في إبداء "عاطفة" غير مألوفة في طبائعهم القاسية، ونبراتهم المستعلية، فاستحالوا في بكركي "رعايا" حاملين خطاباً ناعماً مهذباً راقياً ومتطلعاً الى آداب الحدث ومرتقياً الى اصول الكلام في حمى المقام الرفيع المهيب.
أين تلك "الموهبة" المفقودة لديهم حين ينبرون في يومياتهم، خارج حرم الصرح، الى قصف أعصاب الناس وآذانهم بكل ما تذخر بهم قرائحهم وملكاتهم "البلاغية" من خطب جارحة موروثة من التنشئة الحربية والقتالية في بلد لم تعد السياسة فيه سوى فن التقذيع الكلامي؟
لم يكن غريباً، والحال هذه، ان ينام "آذاريون" من هنا على اقتناع بأن "البطريرك الراعي" لن يكون سوى امتداد لـ14 آذار المعارضة، وآذاريون من هناك بأن "الراعي الجديد" آت لقلب ظهر المجن لمصلحة 8 آذار الحاكمة؟
ولم يكن غريباً ان تبلغ لهفة البعض عليه حد نفي ذاتية المجمع الماروني الانتخابي واستقلاليته في انتخاب سيد بكركي الجديد والصاق "التهمة" بالكامل بالفاتيكان، كأنه "سوريا الوصاية" على الموارنة.
ولن يكون غريباً بطبيعة الحال ان يغدو السفير السوري الاول بين نظرائه حين بادر وخفّ رجله الى بكركي ناقلاً الدعوة العاجلة الى زيارة دمشق. ولم يكن أكثر غرابة ان يثير السفير السوري ريبة سفيرة اميركا وسواها للمسارعة الى اللحاق بالركب في اليوم التالي فوراً خشية انزلاق "حجر الداما" الى محظور غير محسوب.
كلٌ يريد البطريرك "له" و"معه"، ولكن من سيكون البطريرك الجديد ومع من؟
هو خط بياني أمام البطريرك في رياضته الروحية البادئة اليوم. وهو سيد بكركي وبطريرك الموارنة. وحيث يقيم رياضته فقط سترتسم صورة البطريرك الذي مهما كانت خصاله وميزاته خارج بكركي، فان الكرسي التاريخي وحده سيخرجه بصورة الذي سيكونه بطريركاً. والآتي لن يكون بعيداً ولن يطول.