رجل لا يتّسع له المكان
الأب جاد القصيفي
10 آذار 2025 11:53
يترك البعض بصماتِهم على حياة مؤسساتهم وأديارهم وكنيستهم. والبصمات أنواع. لكن التاريخ ليس مستودعًا محايدًا للبصمات. إنما يترك شرفة استثنائية لمن قادوا مؤسساتهم على طريق التقدم والتطور وبناء الجسور. وللشرفة علاقةٌ بالرجل وقدراته، وبالمنعطف وحساسيته، وبثقل المسرح الذي يتحرك عليه.
الأب الياس العنداري، الراهب اللبناني الماروني، فارسٌ نبيل ترك بصمة مؤثّرة في تاريخ الرهبانية اللبنانية المارونية والكنيسة المارونية والقضية اللبنانية. ترجّل عن صهوة جواده. ربّت بهدوء على كتف حصانه. وتوارى. إنها عادة النبلاء. الرحيل والتواري عندما يحين الوقت. فارسٌ نبيل. شهم وخفور. بارد القسمات. نظره ثاقب. وتعلو وجهه مسحة من الكآبة. يتكلم ويكتب بصوت هادئ وخفيض. بطريقة تشبه انهمار زخّات المطر. إيقاع واحد وصوت واحد وأفكار مثل القطرات الهابطة من السماء. عندما تقاطعه، يختفي الإيقاع فجأة وعندما يعود للحديث أو الكتابة تعود زخّات المطر للانهمار من جديد.
حمل الأب الياس العنداري في روحِه سمات كثيرة. التقت في شجرة عائلته جهات ولهجات. والتقت في تربيته وثقافته جداول كثيرة. هو أولاً إبن الوجع التاريخي الماروني الذي قرأ التاريخ الكنسي والماروني ثم جذفته قناعاته إلى المساهمة في مسيرة هذا التاريخ مؤمنًا ومبشِّرًا ومدافعًا ومناضلاً عن المارونية التي هي بالنسبة له روح وطريق وحرية. أدرك الأب الياس أيضًا أن أول حرفٍ في قاموس التاريخ الماروني هو الجغرافيا التي يتجسّد عليها فعل التاريخ الحرّ، وهي القدر الذي يحدد المصائر ويفتح أبواب الخطر...
قصته لا تشبه إلا قصته. جاء من بيت متواضع في ضيعة متواضعة. من كفور العربة المسكونة برائحة الزيتون وخيبات المزارعين. وكان على الصغير أن يشارك في قطاف المواسم ليخفف عبء المعيشة عن والديه. وذات يوم قاده أحد أقاربه الرهبان إلى الإبتداء وكان آنذاك في دير سيدة النصر – غوسطا. وهناك وعبر التزام القوانين والدقة والنظام واستحقاق ثقة المسؤولين تحول الراهب الشاب ورشة جوالة وقصة صعود. أحب الرهبانية وأحبته وظل حتى النفس الأخير يجاهر بمشاعر الامتنان والوفاء.
يوم عيّنته السلطة الرهبانية مديرًا على مدرسة دير سيدة ميفوق عام 1968، تحوّلت المدرسة معه إلى مشروع نجاح وتفوق. وراكم رصيد النجاح الإداري بعدما عيّن رئيسًا على دير سيدة ميفوق. ثم أتت الحرب الأهلية هادرة بصوت مدافعها وبأصوات المقاتلين وأنين المهجّرين. وقف كالرمح في عين العاصفة. قاوم على طريقته وبأسلوبه. كان هاجسه الحفاظ على الجماعة. كان هاجسه الصمود والبقاء.
بعد سنوات سلّمته السلطة الرهبانية إدارة مستشفى سيدة المعونات في جبيل. عند تسلّمه المستشفى وجده أشبه بمستوصف كبير. لكن الأب الياس العنداري كان من تلك القماشة النادرة. رجل تتكئ عليه مستشفى. رجل يتكئ عليه جبل. رجل تتكئ عليه رهبانية. وبعض الرجال يثير حسد الجبال.
تحولت معه المستشفى من مستوصف كبير إلى واحدة من أهم المراكز الطبية في لبنان. إستقطب عشرات الأطباء الأكفاء من الداخل ومن الخارج. أمدّها بجسم تمريضي وجهاز إداري كفوء. إستقدم الآلات والمستلزمات الطبية الحديثة والمتطورة وحوّلها منارة طبية وواحة إستشفاء ذاع صيتها الحسن وصارت مقصدًا ومرجعًا للقريب والبعيد. كان الرجل بحجم الانتظار رغم الصعوبات والمكائد والألغام.
ولم تكن رحلته بين الأشراك سهلة. إنتُخِب بعدها مدبِّرًا عامًا في الرهبانية بين سنوات 1986 و 1992. كان الأب الياس أكبر من مكتبه. كان مصابًا بحجمه، يجتذب الأضواء إن حضر وتسأل عنه إن غاب. تكبر المؤسسة في عهده وتتذمر أحيانًا من فرط حضوره، لكنها تبدو كالأرملة في غيابه وتروح منذ اليوم الأول تسأل عن موعد عودته. وفي مسيرته الكنسية والرهبانية كان الأب الياس يتلقى اللكمات بثبات الملاكم الكبير ثم ينكفئ منتظرًا تبدل الظروف واختمار اللاعبين والأدوار والمسرح. وبثقة القوي كان يتنازل ويتراجع ويفرط في المرونة معتبرًا أن الخسارة مقبولة شرط أن تربح الرهبانية.
الفرص وحدها لا تكفي في الحياة. في اغتنامها يلتمع معدن الرجال. وقدرات الاب الياس زادته اقتناعا بوضع نفسه في خدمة مجتمعه إبان حروب الأخوة في نهاية الثمانينات. فكان رسول سلام ووفاق بين الأخوة المتحاربين وبين خطوط التماس والقذائف والزلازل. أراد أن تبقى الجماعة. وأراد أن يتمسك بالخط التاريخي للموارنة دون أن يهبط إلى مستوى الزعامات الصغيرة.
كان الياس العنداري ديرًا في رهبانية وقلعة في كنيسة. كان صمام أمان واحتياط. وكانت لديه فكرة ما عن الرهبانية يصرّ على قيامها ووجودها. ما كان يحتاج الى الأوسمة والمراكز لتنفتح أمامه أبواب الوجدان التاريخي والجماعي. باكرًا حجز مقعده فيه. وعلى طريقته وبأسلوبه. يرقد اليوم الأب الياس في مثواه الأخير كما عاصفة هادئة. صمته العميق أشد دويًا من صوته.
كنت أعلم أن الأب الياس يصارع المرض الخبيث وفي أكثر من مكان في جسده. لكنني كنت أراهن أن يكون على سرير المرض عنيدًا كما كان دائمًا. إنه السرطان. لا يقبل أقل من الضربة القاضية. قبل بضعة أشهر هاجمه الزائر الخبيث. أقلقه ثم أتعبه ثم أقعده. كان يتحامل على جسده ويقاوم. كأنه كان يراهن على إرجاء موعد الاستحقاق. بغياب الأب الياس العنداري تفقد الرهبانية عميدًا وركنًا ساهمت في صناعته وساهم في صنعها. لكن شعور الخسارة يضاعف الرغبة في التمسك بالقيم الإنسانية والرهبانية والوطنية التي بها آمن ومن أجلها عمل.
عايشته عن كثب في أنطش مار يوحنا مرقس في جبيل. وكنت راهبًا فتيًا. وليست نزهة أن تكون الى جانب رجل كأنه "في جفن الردى وهو نائم". أحيانًا كنت أشعر بأن الطاولة والكراسي تتملكها عقدة الذنب، مخافة أن يعتقد الأب الياس وكنا نناديه "المحترم"، أنها لا تتفاعل، ولا تأخذ بالجدية اللازمة، ما يقول وما يفعل! وفي تنقلاتي معه كنت أقود السيارة في أغلب الأحيان، وكان "المحترم" يجلس هادئًا. هدوء المحاربين الأشداء. يستنبش بهدوئه لواعج نفسي، وكانت تتلاطم الآراء والأفكار، والبوح، وكنت أحيانًا أُطلق العنان، للنكات المكبوتة، والتعليقات اللاذعة على ما حصل... لكنه حتى إذا أراد أن يضحك. كان يضحك بوقار. وهدوء. وخفر. مرهقٌ التنقّل مع فارس من طينته. لكنه سفر شيّق وممتع وراقٍ.
إلى اللقاء أبونا المحترم. ومن عليائك أذكرنا بجوار القديسين!
الأب الياس العنداري، الراهب اللبناني الماروني، فارسٌ نبيل ترك بصمة مؤثّرة في تاريخ الرهبانية اللبنانية المارونية والكنيسة المارونية والقضية اللبنانية. ترجّل عن صهوة جواده. ربّت بهدوء على كتف حصانه. وتوارى. إنها عادة النبلاء. الرحيل والتواري عندما يحين الوقت. فارسٌ نبيل. شهم وخفور. بارد القسمات. نظره ثاقب. وتعلو وجهه مسحة من الكآبة. يتكلم ويكتب بصوت هادئ وخفيض. بطريقة تشبه انهمار زخّات المطر. إيقاع واحد وصوت واحد وأفكار مثل القطرات الهابطة من السماء. عندما تقاطعه، يختفي الإيقاع فجأة وعندما يعود للحديث أو الكتابة تعود زخّات المطر للانهمار من جديد.
حمل الأب الياس العنداري في روحِه سمات كثيرة. التقت في شجرة عائلته جهات ولهجات. والتقت في تربيته وثقافته جداول كثيرة. هو أولاً إبن الوجع التاريخي الماروني الذي قرأ التاريخ الكنسي والماروني ثم جذفته قناعاته إلى المساهمة في مسيرة هذا التاريخ مؤمنًا ومبشِّرًا ومدافعًا ومناضلاً عن المارونية التي هي بالنسبة له روح وطريق وحرية. أدرك الأب الياس أيضًا أن أول حرفٍ في قاموس التاريخ الماروني هو الجغرافيا التي يتجسّد عليها فعل التاريخ الحرّ، وهي القدر الذي يحدد المصائر ويفتح أبواب الخطر...
قصته لا تشبه إلا قصته. جاء من بيت متواضع في ضيعة متواضعة. من كفور العربة المسكونة برائحة الزيتون وخيبات المزارعين. وكان على الصغير أن يشارك في قطاف المواسم ليخفف عبء المعيشة عن والديه. وذات يوم قاده أحد أقاربه الرهبان إلى الإبتداء وكان آنذاك في دير سيدة النصر – غوسطا. وهناك وعبر التزام القوانين والدقة والنظام واستحقاق ثقة المسؤولين تحول الراهب الشاب ورشة جوالة وقصة صعود. أحب الرهبانية وأحبته وظل حتى النفس الأخير يجاهر بمشاعر الامتنان والوفاء.
يوم عيّنته السلطة الرهبانية مديرًا على مدرسة دير سيدة ميفوق عام 1968، تحوّلت المدرسة معه إلى مشروع نجاح وتفوق. وراكم رصيد النجاح الإداري بعدما عيّن رئيسًا على دير سيدة ميفوق. ثم أتت الحرب الأهلية هادرة بصوت مدافعها وبأصوات المقاتلين وأنين المهجّرين. وقف كالرمح في عين العاصفة. قاوم على طريقته وبأسلوبه. كان هاجسه الحفاظ على الجماعة. كان هاجسه الصمود والبقاء.
بعد سنوات سلّمته السلطة الرهبانية إدارة مستشفى سيدة المعونات في جبيل. عند تسلّمه المستشفى وجده أشبه بمستوصف كبير. لكن الأب الياس العنداري كان من تلك القماشة النادرة. رجل تتكئ عليه مستشفى. رجل يتكئ عليه جبل. رجل تتكئ عليه رهبانية. وبعض الرجال يثير حسد الجبال.
تحولت معه المستشفى من مستوصف كبير إلى واحدة من أهم المراكز الطبية في لبنان. إستقطب عشرات الأطباء الأكفاء من الداخل ومن الخارج. أمدّها بجسم تمريضي وجهاز إداري كفوء. إستقدم الآلات والمستلزمات الطبية الحديثة والمتطورة وحوّلها منارة طبية وواحة إستشفاء ذاع صيتها الحسن وصارت مقصدًا ومرجعًا للقريب والبعيد. كان الرجل بحجم الانتظار رغم الصعوبات والمكائد والألغام.
ولم تكن رحلته بين الأشراك سهلة. إنتُخِب بعدها مدبِّرًا عامًا في الرهبانية بين سنوات 1986 و 1992. كان الأب الياس أكبر من مكتبه. كان مصابًا بحجمه، يجتذب الأضواء إن حضر وتسأل عنه إن غاب. تكبر المؤسسة في عهده وتتذمر أحيانًا من فرط حضوره، لكنها تبدو كالأرملة في غيابه وتروح منذ اليوم الأول تسأل عن موعد عودته. وفي مسيرته الكنسية والرهبانية كان الأب الياس يتلقى اللكمات بثبات الملاكم الكبير ثم ينكفئ منتظرًا تبدل الظروف واختمار اللاعبين والأدوار والمسرح. وبثقة القوي كان يتنازل ويتراجع ويفرط في المرونة معتبرًا أن الخسارة مقبولة شرط أن تربح الرهبانية.
الفرص وحدها لا تكفي في الحياة. في اغتنامها يلتمع معدن الرجال. وقدرات الاب الياس زادته اقتناعا بوضع نفسه في خدمة مجتمعه إبان حروب الأخوة في نهاية الثمانينات. فكان رسول سلام ووفاق بين الأخوة المتحاربين وبين خطوط التماس والقذائف والزلازل. أراد أن تبقى الجماعة. وأراد أن يتمسك بالخط التاريخي للموارنة دون أن يهبط إلى مستوى الزعامات الصغيرة.
كان الياس العنداري ديرًا في رهبانية وقلعة في كنيسة. كان صمام أمان واحتياط. وكانت لديه فكرة ما عن الرهبانية يصرّ على قيامها ووجودها. ما كان يحتاج الى الأوسمة والمراكز لتنفتح أمامه أبواب الوجدان التاريخي والجماعي. باكرًا حجز مقعده فيه. وعلى طريقته وبأسلوبه. يرقد اليوم الأب الياس في مثواه الأخير كما عاصفة هادئة. صمته العميق أشد دويًا من صوته.
كنت أعلم أن الأب الياس يصارع المرض الخبيث وفي أكثر من مكان في جسده. لكنني كنت أراهن أن يكون على سرير المرض عنيدًا كما كان دائمًا. إنه السرطان. لا يقبل أقل من الضربة القاضية. قبل بضعة أشهر هاجمه الزائر الخبيث. أقلقه ثم أتعبه ثم أقعده. كان يتحامل على جسده ويقاوم. كأنه كان يراهن على إرجاء موعد الاستحقاق. بغياب الأب الياس العنداري تفقد الرهبانية عميدًا وركنًا ساهمت في صناعته وساهم في صنعها. لكن شعور الخسارة يضاعف الرغبة في التمسك بالقيم الإنسانية والرهبانية والوطنية التي بها آمن ومن أجلها عمل.
عايشته عن كثب في أنطش مار يوحنا مرقس في جبيل. وكنت راهبًا فتيًا. وليست نزهة أن تكون الى جانب رجل كأنه "في جفن الردى وهو نائم". أحيانًا كنت أشعر بأن الطاولة والكراسي تتملكها عقدة الذنب، مخافة أن يعتقد الأب الياس وكنا نناديه "المحترم"، أنها لا تتفاعل، ولا تأخذ بالجدية اللازمة، ما يقول وما يفعل! وفي تنقلاتي معه كنت أقود السيارة في أغلب الأحيان، وكان "المحترم" يجلس هادئًا. هدوء المحاربين الأشداء. يستنبش بهدوئه لواعج نفسي، وكانت تتلاطم الآراء والأفكار، والبوح، وكنت أحيانًا أُطلق العنان، للنكات المكبوتة، والتعليقات اللاذعة على ما حصل... لكنه حتى إذا أراد أن يضحك. كان يضحك بوقار. وهدوء. وخفر. مرهقٌ التنقّل مع فارس من طينته. لكنه سفر شيّق وممتع وراقٍ.
إلى اللقاء أبونا المحترم. ومن عليائك أذكرنا بجوار القديسين!