معوزون في قبضة متلاعبين: انشروا منشوراتنا تربحوا دولاراتنا
نوال نصر
4 آذار 2025 06:26
هو زمن الصوم. هي مرحلة نسمع فيها كثيراً عن أيادٍ بيضاء وتكافل ولقمة طيبة يتقاسمها الناس، وقلوب بيضاء وبعد عن الرذيلة والكذب والنفاق. وهو الفقرُ الذي يُحدّق بمئاتِ آلاف اللبنانيين الذين ظنوا أن قروشهم البيضاء ستكون مانعاً لزمنٍ أسود قد يحلّ. طارت القروش وحلّ السواد. وانطلق كثيرون يهزأون بمن ينشدون مساعدة في زمن القحط. نعم، هناك من ليس لديهم اليوم سوى الكذب على فقراء بلادنا. على أهل البلد الفقراء حقاً الذين يخجلون أن يطلبوا وحين يفعلون سرّاً يلاقون العشرات يستغلّون حاجتهم ويضحكون. ماذا يحصل في هذا الملفّ؟ ماذا تحت مجهر فقراء بلادنا؟
وزارة الشؤون الاجتماعية في لبنان معنيّة. هي وضعت رقماً ساخناً للفقراء ليطلبوا عبره. لكن، هل الخطوط الساخنة تعمل في الزمن البارد؟ برنامج الأسر الأكثر ضعفاً في لبنان توقف ودُمج من فيه في برنامج "أمان" ورقمه الساخن 1714. نطلب الرقم للاستفهام طوال أسبوع، عشرات المرّات يومياً، لكنّ الرقم إما مشغول أو يفتح ولا أحد يجيب. والسبب؟ بحسب وزارة الشؤون الاجتماعية "كثرة الاتصال". نصدّق؟ طبعاً، اعتدنا في لبنان ألّا نصدق كلّ ما يقال. اللبنانيون المعوزون يحاولون ملياً الاتصال للاستفسار ويتكبّدون ما في رصيد هواتفهم ثمناً. فالاتصال كما أعلنت الوزارة "غير مجاني. ومن لا يتمكّن من الاتصال فليراجع صفحة الوزارة على فيسبوك". الوزيرة الجديدة حنين السيد حكت البارحة عن تحدّيات كبيرة في سبيل تعزيز الحماية الاجتماعية ودمج برنامج الأسر الأكثر فقراً مع برنامج "أمان" وتمديد الأخير خمسة أشهر إضافية. وهناك 166 ألف عائلة تستفيد في لبنان، تضمّ 800 ألف فرد لبناني، وقيمة التحويلات تصل إلى 20 مليون دولار. هي مساعدة تشمل 45 في المئة فقط من المعوزين. ماذا عن نسبة 55 في المئة الباقية؟ الوزيرة "ستسعى إلى توسيع رقعة المستفيدين". إلى حين تنجح بما تسعى إليه، ماذا في الوقائع؟ وماذا عن الآخرين الذين يقنعون الناس أنهم أيادٍ بيضاء؟
كفى كذباً
هناك "جمعية مساعدة العائلات الفقيرة في لبنان" منتسب إليها 15 ألف إنسان. أحد المعوزين كتب لها "من أجل هذه الأيام الفضيلة ساعدوني والله يجعلها في ميزان حسناتكم يا أهل الخير". أحد من يقولون إنه يساعد بشفافية يطلب من الناس إضافة أسمائهم وبلدهم وكم يحتاجون، عارضاً تحويلات انطلقت في رمضان. لكن من يعلقون على طلبه يقولون كل شيء "يكفي استغلالاً للناس. كفى كذباً". إحداهنّ قرّرت أن تصدّق وطلبت "أحتاج إلى دواء مزمن يا أهل النخوة أنا من الجنوب وأشكر من يساعدني فضلاً وليس أمراً". هي تنتظر جواباً منذ كانون الثاني الماضي. عارض المساعدة، فاتح الصفحة، يتباهى في عرض مئات الدولارات. هو يطلب من المعوزين مكالمته على الخاص والتعليقات: "ليش ما بتردّ على الخاص؟".
صفحة أخرى تضحك على اللبنانيين "مساعدات للمحتاجين". هي تعرض أيضاً كدسات مئات الدولارات والطلبات تهطل أكثر من الشتي "أنا أرملة ومريضة سرطان وأحتاج إلى مساعدة" و "أنا في كرب شديد أرجو المساعدة" لكن فوزي كشف القصة "محتالون كذابون منافقون نصّابون فلتستحوا من الله". لكن، من لم يخجل تابع عرض كدسات الدولارات مطالباً المحتاجين بالتكلم معه على الخاص لكن فيصل أراد "الفصل" في ما يدور ويجول في بال من يتلاعب بالناس "والله عيب خافوا من الرب ولا تتلاعبوا بمشاعر الناس عيب وعار أن تكونوا بهذه القسوة".
مقايضة واستهتار
فاطمة دخلت على خط النفاق "سنحول لكم الأموال شرط مشاركة آخر منشور على صفحتنا على 16 مجموعة على فيسبوك. ساعدونا في الوصول إلى أكبر عدد ممكن من الناس المحتاجين للمساعدة. ساعدونا نساعدكم بمبلغ 5000 دولار يصل إلى أقرب وكالة أموال من بيوتكم. انشروا آخر منشور لنا على 16 مجموعة على فيسبوك وسيصل كود التحويل لكم في أقل من 30 دقيقة". ما هذا الهراء؟ ما هذا الاستهتار بمشاعر المعوزين؟
يتمّ تقديم الطلبات والنشر من لبنانيين وسوريين وعراقيين ويمنيين. هي بلادٌ في اللغة السياسية "محور واحد" وفي لغة الحاجة "فقيرة" وفي لغة المتلاعبين "أضحوكة". لكن الحاجة تعمي البصيرة وسماح أقحمت في اللعبة "محتاجة مبلغ مالي لسداد الديون ساعدوني". التلفيق يتم تحت أسماء عربية خليجية "أرسل لي اسمك أرسل اسم بلدك واستلم حوالة رمضانية فورية". والناس يفعلون ما يطلب منهم.
يكفي أن يكتب "تمّ" على بوستات النفاق ليصلكم مال كثير. والمعوزون يكررون كما الببّغاء: تمّ وتمّ وتمّ. إنه زمن النفاق. فيا حرام على شعب لبنان الأبيّ الذي فقد عقله وبات اسم بلده على قائمة الدول التي يلهث ناسها بحثاً عن قروش من مزيّفين.
رقم ساخن وخط بارد
نعود للاتصال بالرقم الساخن 1714 في وزارة الشؤون الاجتماعية. لكن، لا مجيب. الحاجات كثيرة كبيرة من زمان في لبنان لكن شريحة الفقراء كبرت جداً في الآونة الأخيرة. أعلن في لبنان برنامج دعم الأسر الأكثر فقراً قبل حين وتحديداً عام 2012، أيام الرئيس ميشال سليمان، وقيل يومها إنه سيشمل دعم 150 ألف أسرة لتقوية الأمان الاجتماعي. ويومها قيل إن 60 في المئة من سكان المدن في لبنان يعيشون في أحياء فقيرة، و300 ألف شخص غير قادرين على سدّ متطلّباتهم الغذائية، و15 في المئة من الأطفال في الشوارع هم لبنانيون. كان ذلك قبل أن تحصل الأزمة اللبنانية الكبيرة وتطير ودائع الناس من متوسطي الحال.
لاحقاً، إبّان الأزمة، ازداد الفقر كثيراً ونما أسرع من الفطر وأصبح برنامج الاستفادة من تقديمات وخدمات برنامج استهداف الأسر الأكثر فقراً أكثر من حاجة. هو ضرورة. موقع البرنامج: www.nptp.gov.lb. إعلان على صدر الصفحة الأولى: الأسرة اللبنانية الراغبة في تقديم طلب عليها الاتصال بأقرب مركز للبرنامج ضمن نطاق سكانها. كثيرون فعلوا منذ أعوام ولم يلقوا رداً. هناك بطاقة غذائية نقدية إلكترونية ومحال محدّدة تستقبلها. فلنأخذ المحال التي تستقبل حاملي البطاقة في بيروت مثلاً. هي 25 محلاً ولا واحد منها في شرقي بيروت، في الأشرفية أو عين الرمانة، على سبيل المثال لا الحصر. ننظر حولنا في شوارع الأشرفية، في الجعيتاوي والبدوي والنهر ومار مخايل، فنرى عشرات ينامون بلا عشاء. لذا، على قاعدة المساواة نسأل: ماذا عن المستفيدين في هذه المناطق؟ في كلِ حال، دُمج هذا البرنامج اليوم في برنامج "أمان".
في شباط الماضي أعلنت وزارة الشؤون الاجتماعية عن مجموع الأموال المحولة في كانون الثاني 2025 ضمن برنامج "أمان" (بعد دمج البرنامج مع برنامج دعم الأسر الأكثر فقراً) وهو: 18,136,475 دولاراً أميركياً. استفادت من المبلغ 161,983 أسرة. شفافية منقوصة. فهناك حاجة فعلية إلى معرفة كيفية اختيار الأسرة لنتأكد أن المال العام بين أيدٍ أمينة.
معايير الفقر
مبدئياً، إنها المعايير "الفاقعة" التي تحدد من هو معدم ومن هو "عال". فلكلِ قطعة نحوزها في بيوتنا علامة. البراد له علامة. الغاز له علامة. وحتى السرير له علامة. والمعوز هو من ليس لديه شيء. لكن، من قال إن من ليس له شيء وحده في أيامنا ينام بلا عشاء؟ هناك، في قلب وزارة الشؤون، من يتكلم "عن معايير أبسط تؤخذ في الاعتبار لكن الإمكانيات تستمرّ قليلة". ماذا يعني ذلك؟ معناه أنّ هناك معوزين سيستمرّون في النوم جياعاً وهناك معوزين، ممن لم يعتادوا مدّ اليد، سيستمرّون في طهي الحجارة في آخر الليل.
والحلّ؟ بين عجز وزارة الشؤون- وعبرها الدولة اللبنانية- وكرامة من لم يعودوا يملكون سواها، سيستمرّ الفقر في لبنان ملفاً يكبر. والسؤال، ماذا عن هؤلاء المسنين الذي خسروا الكثير ولم يبق لهم إلّا الصوم والصلاة؟ من يشفع بهم؟ المطلوب اليوم وبإلحاحٍ وضع نظام الشيخوخة على بساط طاولة مجلس الوزراء كي لا يبقى 508 آلاف مسنّ في لبنان في مرمى الجوع والعوز والقهر (يتوزعون حسب آخر إحصاء على الشكل التالي: بين 65 و69 عاماً 157 ألفاً، وبين 70 و 74 عاماً 131 ألفاً، وبين 75 و79 عاماً 95 ألفاً، وبين 80 و84 عاماً 73 ألفاً، ومن 85 عاماً وما فوق 52 ألفاً. وهذه النسب تشير إلى أن نسبة من هم فوق 65 عاماً يشكلون 14 في المئة من عدد اللبنانيين الذين يسكنون مساحة لبنان). هؤلاء اليوم أولوية. ثمّة برامج وصناديق لا تعدّ ولا تحصى. ثمّة حاجيات هائلة. فلتبدأ الدولة من مكان ما، مكان راسخ ما، تعمّم فيه أصحاب الحقّ على قاعدة المساواة. فليعط كل مسنّ حقّه في ما تبقّى له من حياة. فالفقراء يطالبون غالباً منطلقين من حاجاتهم لإعالة مسنّ. وهذه قد تكون الخطوة الأولى في الطريق السليم.
الفقر كبير. البرامج المجتزأة كثيرة. والمؤسسات والمنظمات الدولية المساهمة لا تعدّ. الدولة تتّكل عليها واللبناني المعوز يتّكل عليها. فماذا لو أوقفت ضماناتها المالية لبرامج محددة بزمن ونفر محدّدين؟ فلتنظر الدولة اللبنانية التي يقال إنها تتأسّس من جديد اليوم إلى الدائرة الواسعة إذا أرادت نجدة الفقراء والمسنين والمعوزين. هؤلاء اليوم بحاجة ماسة إلى أمان أبعد بكثير من برنامج "أمان". ولتلتفت أيضاً إلى من يتلاعبون بالفقراء. كرامة الفقراء ليست للعب.