العبسي يواصل جولته في مرسيليا: لتفعيل التواصل بين المغتربين وكنيستهم
24 شباط 2025 11:04
يواصل بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الملكيين الكاثوليك يوسف العبسي والوفد المرافق جولته الراعوية في مرسيليا، وترأس القداس الإلهي في رعية القديس نيقولاوس ـ مرسيليا بحضور لفيف من الكهنة وحشد من أبناء الرعية، كرس في خلاله القسم الأخير من الكنيسة التي اكتمل تجديدها بشكل كامل.
وبعد الانجيل المقدس القى العبسي عظة دعا فيها الى تفعيل التواصل بين المغتربين وكنيستهم الام وقال: "يسعدنا جدًّا أن نلتقي في هذا الأحد المبارَك مع أبناء وبنات رعيّة القدّيس نقولّاوس في مرسيليا، في هذه الليترجيّا الإلهيّة المقدّسة، لكي نحتفل بالسيّد المسيح القائم من بين الأموات والحاضر في القربان المقدّس، لكي نشكره على كلّ ما ينعم به علينا لا سيّما الخلاصِ الأبديّ الذي أنعم به علينا بموته وقيامته. يسعدنا أيضًا أن نلتقي اليوم في مناسبة غالية على قلوبنا، انتظرناها طويلًا بشوق، هي الانتهاء من ترميم هذه الكنيسة وإعادتها إلى جمالها الأوّل الذي كانت قد لبسته حين بناها آباؤنا بإيمانهم ومالهم وتعبهم وانتمائهم إلى كنيستهم وحبّهم لها وافتخارهم بها، منذ مئتي عام ونيّف، لكي يحافظوا فيها على تراثهم الكنسيّ ويشهدوا على الربّ يسوع المسيح كما كانوا يفعلون في بلادهم الأصليّة التي أتوا منها".
اضاف: "قد يتساءل البعض أو يحتجّ أو حتّى يَدين قائلين لماذا تجميل الكنائس والإنفاق عليها في حين أنّ الحاجة إلى أمور أخرى. إنّ تجميل الكنائس هو من باب إظهار جمال الله وجمال عالمه. الله جميل وكلّ ما له علاقة به أو ينتسب إليه يجب أن يكون جميلًا. هكذا الكنائس هي جميلة لكي يشعر كلّ من يدخل إليها بجمال الله، لكي يشعر بأنّه في عالم آخر غير العالم الخارجيّ الذي يعيش فيه. الكنيسة جميلة بهندستها وبالإيقونات التي تزيّن جدرانها والترانيم التي تصدح في أرجائها والكلمات التي تعبّر عن إيمانها ولباس المحتفلين فيها. هذا ما دفع الذين أنشأوها على أن تكون جميلة والذين رمّموها على أن تبقى كذلك".
وتابع: "اليوم تنقضي مئتا سنة على هذه الكنيسة وما زالت منذ ذلك الحين إلى هذا الوقت تصدح فيها الترانيم ويرتفع البخور مع الصلوات وتضاء الشموع ويتمجّد اسم الله ويسبَّح ويبارَك وتتقدّس نفوس كثيرة وتحصل على الخلاص بنيل الأسرار المقدَّسة، وتبقى على هذا النحو، كما أرادها مؤسّسوها علامة رجاء لا يَخزى للذين يقصدونها وللذين يمرّون بها. وتأكيدًا لهذه الغاية أطلقوا عليها اسم القدّيس نقولّاوس الذي من مدينة ميرا، شفيع الرجاء في كنيستنا البيزنطيّة. وقد شاءت العناية الإلهيّة أن يتمّ الانتهاء من ترميمها وتدشينها في عام الرجاء، 2025، في يوبيل الرجاء الذي أعلنه قداسة البابا فرنسيس وافتتحه في مطلع هذا العام بمناسبة انقضاء ألف وسبع مئة عامٍ على المجمع المسكونيّ الأوّل الذي عُقِد في مدينة نيقيا (في تركيّا الحاليّة)، في عام ثلاثِ مئةٍ وخمسة وعشرين، المجمعِ الذي التقى فيه ثلاثُ مئةٍ وثمانيةَ عشرَ مطرانًا أتوا من أنحاء المسكونة، بأمر من الامبراطور قسطنطين، وحدّدوا في أثنائه ألوهيّة السيّد المسيح ومساواته لله الآب في الجوهر وأزليّته مع الآب والروح، كما نقول في قانون إيماننا. أراد قداسة البابا فرنسيس، من وراء تخصيص هذه السنة اليوبيليّة، التي جعل لها عنوانًا "حجّاج الرجاء"، أن يقوّي المسيحيّون رجاءهم بالخلاص الأبديّ، بالملكوت السماويّ الذي وعدنا به السيّد المسيح في التطويبات التي تركها لنا في الإنجيل والتي أرسى بها الرجاء المسيحيّ. لم يصف قداسة البابا هذا العامَ اليوبيليّ بأنّه حجّاج أو حجّ إلى روما، بل وصفه بأنّه "حجّاج الرجاء"، ونحن نعلم من القدّيس بولس أنّ الرجاء هو لنا نحن المسيحيّين السيّدُ المسيح نفسه. ليس الحجّ المسيحيّ الحقيقيّ بالتالي حجًّا إلى مكان، مهما كان هذا المكان مقدّسًا وغاليًا على قلوبنا، بل الحجّ المسيحيّ الحقيقيّ هو إلى السيّد المسيح عينه الذي هو رجاؤنا وخلاصنا. هذا ما يجعل حياتنا كلّها على الأرض حجًّا إلى السيّد المسيح حتّى نبلغ إلى ملء قامته كما يعلّمنا بولس أيضًا. في هذا العام سوف تقام في مدينة رومة احتفالات كنسيّة وصلوات ورتب على مدار العام. وقد خَصّص الذين وضعوا برنامج اليوبيل لنا نحن الكنائس الشرقيّة الكاثوليكيّة، ثلاثةَ أيّام، أيّامِ 12 و13 و14 أيّار القادم 2025، لكي تحتفل كلّ كنيسة على حسب طقسها، وكان من نصيبنا نحن الروم الملكيّين الكاثوليك قدّاس في الرابعَ عشَرَ من أيّار في كنيسة القدّيس بطرس برومة، والدعوة إلى الاشتراك فيه وفي الاحتفالات الأخرى مفتوحة للجميع".
وقال: "في مجمع نيقية حدّد الآباء المشاركون أيضًا ووحّدوا تاريخ عيد الفصح بعد أن كان المسيحيّون يحتفلون به في تواريخ مختلفة. ومن الجميل أنّ المسيحيّين يحتفلون كلّهم معًا بعيد الفصح في هذا العام اليوبيليّ 2025 أيضًا حيث يتذكّر المسيحيّون أنّ من واجبهم العمل على أن يكونوا واحدًا ليس فقط في تعييد الفصح بل أيضًا وخصوصًا في الإيمان، أن يسعوا إلى الوحدة في الإيمان التي نصلّي من أجلها كلّ يوم أكثر من مرّة في صلواتنا، فيتمّموا بذلك إرادة السيّد المسيح الذي صلّى في ليلة آلامه من أجل أن يكونوا واحدًا. وكم هو جميل أن تكون كنيستكم هذه التي نحن قائمون فيها كنيسة تجمع المسيحيّين من كلّ الكنائس في عائلة متحابّة متضامنة متكافلة تشهد بالقول والفعل والصلاة على ما يعلّمنا إيّاه القدّيس بولس في رسالته إلى أهل أفسس بقوله: "اجتهدوا في حفظ وحدة الروح برباط السلام، فإنّ الجسد واحد والروحَ واحد، كما أنّكم قد دعيتم إلى الرجاء الواحد. وإنّ الربّ واحد والإيمان واحد والمعموديّة واحدة والإله واحد والآب واحد للجميع وهو فوق الجميع وخلال الجميع وفي الجميع" (أف 4: 3-6). وفي هذا المقام لا بدّ من أشكر جزيل الشكر قدس الأرشمندريت إلياس نمّور خادم الرعيّة ومساعديه على كلّ ما عمله ويعمله لإنعاشها وتقديسها وتوحيدها وتقوية شهادتها وحضورها في محيطها. وأنا شاهد شخصيّ على ذلك بتواصله المستمرّ معي وبإطلاعي، بالصور والكتابات والمكالمات، على كلّ ما يجري هنا. بارككم الله جميعًا".
اضاف: "اليومَ الأحدُ الثالث والعشرون من شهر شباط هو الأحد الثاني الذي قبل زمن الصوم الأربعينيّ المبارك. الاثنين الذي بعد الأحد القادم، أي في الثالث من آذار القادم، يبدأ زمن الصوم الأربعينيّ. هذا اليومُ الأحد الذي نحن فيه تدعوه الكنيسة "أحد مرفع اللحم" أي الأحد الذي نتناول فيه اللحم لآخر مرّة قبل الدخول في زمن الصوم. اليوم تتلو علينا الكنيسة الإنجيل والرسالة اللذين سمعناهما. الإنجيل، الذي يعُرَف بِ "إنجيل الدينونة"، يدعونا فيه السيّد المسيح إلى ما نستطيع أن نسمّيه "المحبّة العمليّة" أي أن نلبّي حاجات الجائعين والعطشانين والمسجونين والمرضى والعريانين وغيرهم من أمثالهم الذين تماهى السيّد المسيح بهم، وأن نمدّ لهم يد المساعدة، وأن نتضامن معهم وأن نخفّف من معاناتهم حتّى يتمكّنوا من العيش بكرامة وراحة وفرح كأبناء لله. أمّا الرسالة فهي أيضًا في خطّ التفكير عينه، يدعونا فيها القدّيس بولس إلى أن لا نكون عثرة بعضنا لبعض أو شكًّا، يعني أن نحافظ على المحبّة الأخويّة وأن نحرص على الحفاظ على إيمان الآخرين، من غير أن نحكم بعضنا على بعض، ومن غير أن ندين بعضنا بعضًا فيما يتعلّق بالصوم أو عدم الصوم، لأنّ من يأكل لا يزداد والذي لا يأكل لا ينقص، ولأنّ الذي يصوم فلربّه يصوم والذي لا يصوم فلربّه لا يصوم والله يقبل هذا وذاك. وهنا أيضًا يؤكّد بولس ما جاء في أنّا ما نفعله للإخوة إنّما نفعله ليسوع، أنّا إذا ما أخطأنا إلى الإخوة وجرحنا ضميرهم الضعيف إنّما نُخطئ إلى المسيح. لذلك علينا أن نقبل بعضنا بعضًا، وليس كيفما كان بل "بغير مباحثة في الآراء". ذلك يعني أن نقبل بعضنا بعضًا على أساس المحبّة التي تغفر مغفرة واسعة تامّة متفهّمة غير باحثة عن المشاحنة والمشاجرة، محبّةٍ تنظر إلى ضعفنا قبل أن تنظر إلى ضعف الآخرين، محبّةٍ تسعى إلى نزع الخشبة من عيننا قبل أن تنزع القشّة من عين الآخرين: "إن لم تغفروا للناس زلاّتهم فأبوكم أيضًا لا يغفر لكم زلاّتكم". إنّنا في حياتنا متنوّعون ومختلفون، لكلٍّ لونٌ ولكلٍّ رأيٌ، والمحبّة التي نحن مدعوّون إليها هي أن نقبل التنوّع والاختلاف ولو كانا بل لا سيّما حين يكونان مخالفين للوننا ورأينا. أمّا الحكم فهو لله تعالى وحده هو الخالق وهو المولى. إنّ المطلوب منّا هو أن نقبل الناس ولو كانوا مضايقين لنا فلا ننصّب أنفسنا بدلاء عن الله. لسنا نحن من يقول إنّ فلانًا يستحقّ الجنّة أو لا يستحقّها، ولا إنّ فلانًا يستحقّ الجحيم أو لا يستحقّها. أتمنّى لكم منذ الآن صيامًا مباركًا وزمنًا مقدّسًا نتحضّر فيه لاستقبال السيّد المسيح القائم من بين الأموات بعد أن نكون رافقناه، في الأسبوع العظيم المقدّس، على درب الآلام والصليب".
وقال العبسي: "إنّ ترميم هذه الكنيسة الذي نحتفل اليوم بالانتهاء من القسم الأخير منه قد حصل بلا شكّ بنعمة الله، إنّما أيضًا بتضافر وسخاء الذين قدّموا المال والمساعدات اللازمة. أودّ في هذه المناسبة أن أشكرهم جزيل الشكر باسمكم أنتم كاهن ووكلاء وأبناء وبنات رعيّة القدّيس نقولّاوس في مرسيليا، وباسم كنيستنا الروميّة الملكيّة الكاثوليكيّة، على المعونة التي قدّموها من أجل ترميم كنيستكم. أشكر الدولة الفرنسيّة التي قدّمت المال والخبرة معًا. أشكر "مبرّة الشرق" Œuvre d'Orient الممثّلة هنا بقدس الأب Jean-Marie Humeaux التي أقرضتنا جزءًا من المال. أشكر المحسنين الذين من هذه الرعيّة. بفضل سخائهم استطعتم أن تقوموا بما قمتم به وبشكل جميل متقن دقيق. ومع شكرنا لهم نصلّي من أجل أن يقدّسهم الربّ الإله ويوفّقهم في حياتهم وينجّح أعمالهم الصالحة التي يقول عنها السيّد المسيح إنّ الناس الذين يرونها يمجّدون أباه الذي في السماوات. الشكر الخاصّ لنيافة الكردينال جان مارك أفلين Jean-Marc Aveline رئيس أساقفة مرسيليا على محبّته لهذه الكنيسة ولأبنائها وعلى حرصه عليهم وتيسير كلّ ما من شأنه أن يجعل هذه الرعيّة مرتاحة آمنة نشيطة. أطال الله عمره ومتّعه بالصحّة التامّة.
*نخصّ أيضًا بالشكر والصلاة آباءنا الذين أنشأوا هذه الكنيسة وجميع الذين أحسنوا إليها على مدى المئتي عامًا المنصرمة وانتقلوا إلى رحمة الله، لاسيّما أنّنا قد احتفلنا البارحة بسبت الأموات بحسب الطقس البيزنطيّ وصلّينا من أجلهم قائلين مع الكنيسة: "مع القدّيسين أرح أيّها المسيح نفوس عبيدك حيث لا وجع ولا حزن ولا تنهّد بل حياة لا نهاية لها" و"ليكن ذكرهم مؤبّدًا".
وتابع: "في هذا المعرض، وإذ إنّنا نقيم اليوم أيضًا تذكارًا للقدّيس بوليكربوس، نتذكّر كاهنًا خدم في هذه الكنيسة من عام 1905 إلى عام 1924، هو قدس الأب الأرشمندريت بوليكربوس خيّاطة الذي كانت له مآثر في تاريخ هذه الكنيسة. فبفضل إقدامه وشجاعته تمكّن في عام 1905 من أن تبقى هذه الكنيسة مِلكيّة خاصّة على خلاف باقي كنائس مرسيليا التي صارت ملكيّة للدولة. وبفضل عمله في أثناء الحرب العالميّة الأولى حصل على وسام "جوقة الشرف" Légion d'honneur الفرنسيّ. وقد شارك أيضًا مع الكردينال لافيجوري Lavigerie في إنشاء "مدارس الشرق" Ecoles d'Orientالتي أضحت فيما بعد "مبرّة الشرق" l'Oeuvre d'Orient والتي كان مكان اجتماعاتها في هذه الكنيسة من القرن التاسع عشر إلى ستّينات القرن العشرين. وقد فرّح الله الأرشمندريت بوليكربوس بأن احتفل عام 1921 بحفاوة بالمئويّة الأولى لهذه الكنيسة التي كان الحرفيّ المؤمن التقيّ والوجيه جرجي البيطار الدمشقيّ الملكيّ قد بدّل بعرشها القديم الذي كان من الجصّ عرشًا آخر من الموزاييك الخشبيّ المرصّع بالصَدف صنعه بيديه. كذلك تمّت في عهد الأرشمندريت بوليكربوس تجميلات أخرى من مثل مصلّيات القدّيس نقولّاوس والقدّيسة حنّة والقدّيس يوسف قدّمتها عائلات بولاد وسكاكيني وعبّود وحمصي. ولا ننسى بالطبع جميع الكهنة الذين خدموا في هذه الكنيسة، الأموات منهم والأحياء، وخصوصًا حضرة الأب فُرجيه، الخادمِ السابق لهذه الرعيّة، الذي ابتدأ هو أوّلًا عمليّة الترميم".
وختم: "الشكر الكبير لكم أنتم أيّها الأحبّاء، أبناؤنا وبناتنا الذين في مرسيليا، على كلّ ما تصنعونه لهذه الكنيسة ولا سيّما على محبّتكم لها وغيرتكم عليها وعلى الانتماء إليها والسرور والافتخار بها. البعض منّا اعتمد هنا والبعض تكلّل والبعض رقد. وكلّنا صلّينا. ولكلّ واحد منّا فيها ذكريات. ذكريات حبّ، ذكريات حزن، ذكريات فرح، ذكريات يأس، ذكريات رجاء. ذكريات لقاء. كم من وجوه مرّت وكم من وجوه غادرت. لكنّ هناك أمرًا جوهريًّا عشناه كلّنا في هذه الكنيسة واختبرناه بنوع خاصّ هو محبّة يسوع لنا وإيماننا بيسوع من جهة ومحبّتنا بعضنا لبعض من جهة أخرى. هذه الذكريات هي يوبيلنا اليوم. نحن اليوبيل، ليس الحجر فقط. في هذه اللحظات يعيش كلّ واحد منّا الأيّام أو السنوات التي قضاها هنا، وفي قلب كلّ واحد تختلج عواطف وتنبعث أحاسيس وتنبثق أفكار. هذا هو اليوبيل. اصافحكم بالربّ يسوع مبارِكًا ومهنّئًا، وأنقل إليكم تحيّات أبناء وبنات كنيستنا، وأرجو لكم أطيب الأماني، وأصلّي معكم من أجل هذه الرعيّة صلاة الكنيسة قائلًا: "وطّد أيّها المسيح الإله الإيمان القويم المقدّس مع هذه الكنيسة المقدّسة إلى دهر الداهرين".