الخطيب: الوطن لا يقوم بالكسر والانكسار
13 أيلول 2024 13:46
أدى نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الاعلى العلامة الشيخ علي الخطيب الصلاة في مقر المجلس، بعد ان القى خطبة جمعة ، استهلها بالقول:
قال تعالى: ﴿ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد﴾.
في بيان لموقع الإنسان في هذا الكون والوجود وأنه ليس وجودا تابعا ولا عرضيا، وعلى العكس من ذلك فإن وجود الكون هو الثانوي ووجود الانسان هو المقصود أولا وبالذات لهدف مقصود وغاية إلهية سامية وإن كانا معا معلولين لعلة واحدة وهي الله تعالى، وإنما كان الكون مجرد ساحة لنشاط هذا المخلوق لتحقيق هذه الغاية، {والأرض فرشناها فنعم الماهدون}.
فوجود الكون ومنه الأرض ليس سوى التهيئة وإيجاد الأرضية المناسبة ليقوم الإنسان بالدور الذي خلق لأجله، فالغاية من وجود الكون غير الغاية التي خلق لأجلها الإنسان، وبالتالي لا يمكن أن نخضع حركة الإنسان للحدود التي تخضع لها سائر الموجودات في هذا الوجود أو نقيسها عليها فهي سابقة أولا باللحاظ على وجود الكون في الرتبة العقلية لأن الهدف والغاية سابقة على المغيي الا بمقدار ما يحفظ للانسان البقاء وإمكانية القيام بالدور الذي رسم له القيام به، فهو ملزم بالإبقاء على حياته ما يستلزم مراعاة القوانين التكوينية التي يستلزم مخالفتها تعريض حياته أو الغاية من وجوده للإعدام، وهذا ما لا يحصل الا بتعقله للغاية التي خلق من أجلها، أما سائر المخلوقات الاخرى من جمادات او حيوانات فهي تقوم بهذه الوظيفة تكوينا في الجمادات أو غريزيا في الحيوانات، إذ لا تتمتع بالقدرة على التعقل وبالتالي على الاختيار، وهذا التمايز في الخلق ليس إلا للتمايز في الوظيفة لكل منها، وإذا كانت الوظيفة للمخلوقات غير العاقلة تتكفل بها القوانين الطبيعية أو الغريزة فإن القيام بالوظيفة للإنسان العاقل تركت لاختياره ولإرادته وفقا لما يحقق الغاية من وجوده تبعا لهذا التمايز الذي يتمتع به.
إن فهم الانسان لهذا التمايز لا يحتاج إلى جهد وهو من البديهيات، ولكن هل يمكنه أولا إدراك الوظيفة التي عليه تحقيقها من تلقاء نفسه؟.
ثانيا: هل يمكنه إدراك الوسائل التي يتمكن معها من تحقيقها؟، فقد يدرك الوظيفة ولا يدرك الوسيلة والاداة التي يتوصل بها لبلوغ الغاية كمن يحدد لنفسه هدفا في الحياة ولا يمتلك المعرفة لتحقيقها فيذهب جهده سدى، أو كالذي يدرك مكان وجوده ويحدد المكان الذي يريد الوصول اليه ولكن يفتقر الى معرفة الطريق فيسلك الطريق الخاطئ الذي قد يودي به إلى الضياع إن لم يؤدي به إلى الموت، وفي كلتا الحالتين يفوت على نفسه تحقيق الغاية والقيام بالوظيفة التي استدعاها التمايز في الخلق والقدرة على التفكير والادراك والاختيار التي تفتقدها أو تفتقد بعضها سائر المخلوقات، فبعض المخلوقات تفتقد هذه القدرات جميعا كما هو حال الجمادات والحيوانات، فيما بعض المخلوقات العاقلة تمتلك القدرة على الإدراك وتفتقد القدرة على الاختيار كالملائكة، وبعضها يمتلكها جميعا وهو الانسان ولا يمكن أن تتساوى جميعا في الوظيفة، بل الإنسان هو المخلوق الأوحد المؤهل لتحمل المسؤولية والتبعات من بين جميع المخلوقات".
أضاف "إن المخلوقات العاقلة لم تكن لتحتاج للتعرف الى الخالق على إجراء للعمليات العقلية المعقدة، وإنما تكفلت بها الفطرة التي زود الإنسان بها وأدرك بواستطها علة وجوده كما أدرك بها أيضا وجوب شكر المنعم عليه بهذا الوجود بل عجزه عن تأدية هذا الواجب كما يعبر عن ذلك الامام زين العابدين عليه السلام:
" اللهم إن أحدا لا يبلغ من شكرك غاية إلا حصل عليه من إحسانك ما يلزمه شكرا، ولا يبلغ مبلغا من طاعتك وإن اجتهد إلا كان مقصرا دون استحقاقك بفضلك، فأشكر عبادك عاجز عن شكرك وأعبدهم مقصر عن طاعتك، لا يجب لاحد أن تغفر له باستحقاقه".
كما أنه أعجز عن معرفة الغاية من خلقه والوسيلة التي توصله إليها، فهو أي الإنسان بحاجة إلى من يعرفه إياها والوسيلة التي تحققها وهو العارف بحقيقة صنعه وكنه حقيقته، وهي ما تشير اليه الآية المباركة التي ابتدأنا بها هذا الحديث وهي قوله تعالى تعالى: ﴿ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ۖ ونحن أقرب إليه من حبل الوريد﴾.
فالله سبحانه أشار في هذه الآية المباركة إلى حقيقتين، الحقيقة الأولى: وهو انه هو الخالق للإنسان وبالتالي هو الاعرف بحقيقة تكوينه والغاية التي كان من أجلها هذا الخلق، والمقصود هنا ليس فقط الخلق والتركيب المادي وإنما النفسي والروحي، فالتركيب المادي يمكن للإنسان أن يتوصل اليه والوسائل المادية التي يحافظ بها عليه وهي وظيفة الطب.
والحقيقة الثانية: إن هذه التركيبة الروحية هو الأعلم بها، ولأن خريطتها تبلغ من التعقيد ما لا قدرة لغيره على معرفة دقائقها واختص الحفاظ على سلامتها به {ونعلم ما توسوس به نفسه ۖ ونحن أقرب إليه من حبل الوريد}.
وهو ما تعجز عن اكتشافه تجارب البشر لأن المرض والعلة الحقيقية ليست في الابدان وأن يصيب النفوس والارواح ويعيق الانسان عن القيام بالوظيفة انما هو روحية أيضا وهي مدخل وسوسة الشيطان الذي يضل الإنسان الطريق والهدف".
وتابع :" إن حال الجسد هو كون آخر لحقيقة الإنسان التي هي الروح والعقل والقلب، فهو عبارة عن الآلة التي يستخدمها الإنسان للوصول إلى الغاية يمارس عبرها التعبير عن مظاهر العبودية والارتباط بالله تعالى والخشوع والخضوع له، أما حقيقة العبودية فهي العبودية عبر الروح والارادة والقلب، ولأن الله تعالى وحده العالم بحقائقها ولأنه صاحب الغاية من الخلق فلا يمكن لغيره أن يرسم لها خارطة الطريق التي توصلها إلى تحقيق هذا الغرض.
اما الغرض من الخلق فقد حدده وهو العبودية له سبحانه، قال تعالى {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} وهي غاية لصلاح الإنسان، فالله غني عن عبادتنا وقد تحدثنا في خطبة سابقة عن هذا الموضوع فالعبودية التكوينية هي بالخلق والصنع وبالسنن التكوينية، غاية الامر أن الانسان أعطي الاختيار في الاقرار بها في دائرة هذه السنن.
وبهذا الاختيار بالإقرار يكون الاختبار، والنجاح في هذا الاختبار يتعلق بمدى الالتزام بخريطة الطريق التي وضعها الله سبحانه للإنسان، وهي تتعلق بجملة من التعاليم والآداب التربوية والسلوكية قبل أن يكون الانسان جنينا تبدأ بالزواج والحمل والولادة ثم الطفولة وهي من مهمات الأبوين إلى أن يرشد ويكون مؤهلا لتحمل المسؤولية وهكذا تستمر المسؤولية معه إلى أن يغادر هذه الحياة وهذه المسؤولية تتكامل مع مسؤولية الجماعة فالانسان يؤثر ويتأثر بالبيئة التي يعيش فيها.
أما تطوير الاساليب التربوية والسلوك فهي من مهمة الجهات المختصة في هذا الشأن وهي تخضع للبحث والتجارب العلمية ومن الضروري الاستفادة في هذا الجانب مما توصلت اليه البحوث في مراكز الدراسات المختصة في الدول المتقدمة في هذا المضمار".
وقال :"إن الذي يدعوني إلى تناول هذا الجانب وهو مهم على كل حال، ولكن الذي يجعله أكثر أهمية هو خطورة ما ابتليت به مجتمعاتنا وأسرنا من آفات أخلاقية وسلوكية تنذر بأشد الأخطار تدعو إلى استنفار كل طاقاتنا من أجل مكافحتها وجعلها أولوية الأولويات لدينا، لأن قوة أي مجتمع إنما تقوم على وحدة الثقافة والانتماء والتربية والقدرة على مواجهات الانحرافات الاجتماعية والثقافية والاخلاقية والسلوكية التي اذا ما تركت تستفحل في مجتمعاتنا، فهو الخراب ومنه نؤتى وتفتح الباب للعدو لاستخدامه سلاحا أفعل في نتائجه من الحرب العسكرية، فالهزيمة في الميدان العسكري يمكن أن تحوله إلى نصر حينما تكون ثقافة وعقيدة وآداب المجتمع قوية وثابتة"
أضاف :" إن المغول انتصروا على الدولة في العهد العباسي ولكنهم لم ينتصروا على الأمة فأسلموا وتطبعوا بطابع الأمة ثقافيا ودينيا وأخلاقيا وأصبحوا جزءا من أمة الإسلام، ولكن ما نواجهه اليوم ليس حربا عسكرية محضة وإنما يخوض أعداؤنا اليوم أشرس حربهم مع أمتنا بالثقافة والأخلاق، وهم يمزقون شملنا حيث تركت الانظمة بين ايديهم وضع انظمتنا وبرامجنا التربوية والثقافية بعد وضع ايديهم على وسائل الإعلام والاعلان التي تروج لثقافة الفساد الأخلاقي والاجتماعي والسياسي وتفريغ النشء من أي مضمون أو هدف ذي قيمة في الحياة، بل ليكون ضائعا يمشي دون هدف فضلا عن إثارة الفتن الطائفية والمذهبية وخلت البرامج المدرسية من التربية على القيم الدينية والوطنية بعد تشويه الدين لدى الرأي العام وتحميله أسباب الفتن والفساد السياسي والاجتماعي والإداري نتيجة الضخ الإعلامي والانحرافات التي يمارسها البعض من الملتحفين بغطاء الدين، ومن ثم تحميلها لقوى المقاومة التي تلاقي للأسف رواجا لدى بعض الفئات في مجتمعاتنا العربية والاسلامية ومنها لبنان، وخلقت حالة من سوء الفهم داخل كل دولة من دولنا وهو ما يفسر الموقف من المعركة التي يخوضها الغرب اليوم ضد الشعب الفلسطيني، مما يستدعي وخصوصا من القوى المستهدفة بخلق إسفين بين قوانا الداخلية ما يستدعي منها ومن المخلصين أخذ المبادرة للتواصل مع القوى الاخرى وخلق الثقة بينها لإفشال هذه المؤامرة، وهذه المهمة لا تقتصر على قوى المقاومة وإنما نأمل من بعض الدول وخصوصا العربية منها الحريصة على وحدة الامة أن تبادر إلى وضع خطة للتواصل والحوار تفضي إلى حل للتعقيدات والاشكالات التي أوصلت الأمور إلى ما هي عليه الآن، لأن ما حصل حتى الآن تجاوز المقبول وأكثر من كاف في أخذ العبرة لتصحيح المسار".
واستطرد الخطيب :" كما ندعو القوى السياسية الداخلية في لبنان إلى سلوك هذا المسار لتخفيف الخسائر ووضع حد للانهيار والحفاظ على ما تبقى من الوطن، فالوطن لا يقوم بالكسر والانكسار وانما بالتلاقي والحوار والتفهم والتفاهم بين أبنائه ومكوناته، كما لا يقوم برفع السقوف وإنما بالواقعية السياسية والتواضع بين القوى السياسية المختلفة، فلا محل لشعار الطلاق بين اللبنانيين لأننا محكومون بواقع لا يمكن تجاوزه لأحد وهو أن لبنان وطن نهائي لبنيه وبثقافة الدين الذي يدعو الى توثيق العرى بين المختلفين: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم}، وأن نعلم أن المقاومة الى جانب الجيش والشعب هي حتى الآن الوسيلة الوحيدة للدفاع عن حدود الوطن وسيادته حتى نتفاهم على وسيلة اخرى نتفق عليها تحقق هذا الهدف وهذا لا طريق إلى بلوغه الا بالحوار او التشاور فلا مشكلة في التسميات كمدخل لانتخاب رئيس للجمهورية، فلنتواضع جميعا من أجل الوطن بدل الرهانات الخاسرة التي تضر بالوطن".
واردف:"أما في موضوع الحرب على الشعب الفلسطيني في غزة والضفة الغربية فقد سقطت الامم المتحدة ومنظماتها ومجلس الامن والقانون الدولي بالضربة الغربية القاضية التي جاء ممثل الاتحاد الأوروبي بالأمس ليعلن وفاتها والتهيؤ لدفنها متأخرا بعد أن تعفنت وفاحت رائحتها النتنة، فهي لم توجد الا كغطاء لتحقيق غاياتهم الخبيثة وليس لتحقيق العدالة الدولية كما يدعون، وهذا يؤكد اليوم أن الحق المغتصب لا يعطى بقوة القانون بل يؤخذ بقوة أهله والتضحيات التي هم على استعداد لتقديمها، فلا محل للضعفاء في هذا العالم".
وختم :" تحية للجنوب وتحية للجنوبيين الشرفاء والاوفياء، تحية لجبل عامل جبل الإباء والصمود، وتحية لغزة والضفة وأهلها الشرفاء الصابرين في معركة البطولة والفداء، تحية للمقاومة في جنوب الفداء، وتحية الفخار للشهداء الابطال الذين روت دماؤهم ساحات الوغى دفاعا عن لبنان وعن سيادته ليبقى أرزه شامخا وشعبه مرفوع الرأس لن يذل.
{ ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين}.
الذين قال الله تعالى فيهم: { وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون".
قال تعالى: ﴿ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد﴾.
في بيان لموقع الإنسان في هذا الكون والوجود وأنه ليس وجودا تابعا ولا عرضيا، وعلى العكس من ذلك فإن وجود الكون هو الثانوي ووجود الانسان هو المقصود أولا وبالذات لهدف مقصود وغاية إلهية سامية وإن كانا معا معلولين لعلة واحدة وهي الله تعالى، وإنما كان الكون مجرد ساحة لنشاط هذا المخلوق لتحقيق هذه الغاية، {والأرض فرشناها فنعم الماهدون}.
فوجود الكون ومنه الأرض ليس سوى التهيئة وإيجاد الأرضية المناسبة ليقوم الإنسان بالدور الذي خلق لأجله، فالغاية من وجود الكون غير الغاية التي خلق لأجلها الإنسان، وبالتالي لا يمكن أن نخضع حركة الإنسان للحدود التي تخضع لها سائر الموجودات في هذا الوجود أو نقيسها عليها فهي سابقة أولا باللحاظ على وجود الكون في الرتبة العقلية لأن الهدف والغاية سابقة على المغيي الا بمقدار ما يحفظ للانسان البقاء وإمكانية القيام بالدور الذي رسم له القيام به، فهو ملزم بالإبقاء على حياته ما يستلزم مراعاة القوانين التكوينية التي يستلزم مخالفتها تعريض حياته أو الغاية من وجوده للإعدام، وهذا ما لا يحصل الا بتعقله للغاية التي خلق من أجلها، أما سائر المخلوقات الاخرى من جمادات او حيوانات فهي تقوم بهذه الوظيفة تكوينا في الجمادات أو غريزيا في الحيوانات، إذ لا تتمتع بالقدرة على التعقل وبالتالي على الاختيار، وهذا التمايز في الخلق ليس إلا للتمايز في الوظيفة لكل منها، وإذا كانت الوظيفة للمخلوقات غير العاقلة تتكفل بها القوانين الطبيعية أو الغريزة فإن القيام بالوظيفة للإنسان العاقل تركت لاختياره ولإرادته وفقا لما يحقق الغاية من وجوده تبعا لهذا التمايز الذي يتمتع به.
إن فهم الانسان لهذا التمايز لا يحتاج إلى جهد وهو من البديهيات، ولكن هل يمكنه أولا إدراك الوظيفة التي عليه تحقيقها من تلقاء نفسه؟.
ثانيا: هل يمكنه إدراك الوسائل التي يتمكن معها من تحقيقها؟، فقد يدرك الوظيفة ولا يدرك الوسيلة والاداة التي يتوصل بها لبلوغ الغاية كمن يحدد لنفسه هدفا في الحياة ولا يمتلك المعرفة لتحقيقها فيذهب جهده سدى، أو كالذي يدرك مكان وجوده ويحدد المكان الذي يريد الوصول اليه ولكن يفتقر الى معرفة الطريق فيسلك الطريق الخاطئ الذي قد يودي به إلى الضياع إن لم يؤدي به إلى الموت، وفي كلتا الحالتين يفوت على نفسه تحقيق الغاية والقيام بالوظيفة التي استدعاها التمايز في الخلق والقدرة على التفكير والادراك والاختيار التي تفتقدها أو تفتقد بعضها سائر المخلوقات، فبعض المخلوقات تفتقد هذه القدرات جميعا كما هو حال الجمادات والحيوانات، فيما بعض المخلوقات العاقلة تمتلك القدرة على الإدراك وتفتقد القدرة على الاختيار كالملائكة، وبعضها يمتلكها جميعا وهو الانسان ولا يمكن أن تتساوى جميعا في الوظيفة، بل الإنسان هو المخلوق الأوحد المؤهل لتحمل المسؤولية والتبعات من بين جميع المخلوقات".
أضاف "إن المخلوقات العاقلة لم تكن لتحتاج للتعرف الى الخالق على إجراء للعمليات العقلية المعقدة، وإنما تكفلت بها الفطرة التي زود الإنسان بها وأدرك بواستطها علة وجوده كما أدرك بها أيضا وجوب شكر المنعم عليه بهذا الوجود بل عجزه عن تأدية هذا الواجب كما يعبر عن ذلك الامام زين العابدين عليه السلام:
" اللهم إن أحدا لا يبلغ من شكرك غاية إلا حصل عليه من إحسانك ما يلزمه شكرا، ولا يبلغ مبلغا من طاعتك وإن اجتهد إلا كان مقصرا دون استحقاقك بفضلك، فأشكر عبادك عاجز عن شكرك وأعبدهم مقصر عن طاعتك، لا يجب لاحد أن تغفر له باستحقاقه".
كما أنه أعجز عن معرفة الغاية من خلقه والوسيلة التي توصله إليها، فهو أي الإنسان بحاجة إلى من يعرفه إياها والوسيلة التي تحققها وهو العارف بحقيقة صنعه وكنه حقيقته، وهي ما تشير اليه الآية المباركة التي ابتدأنا بها هذا الحديث وهي قوله تعالى تعالى: ﴿ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ۖ ونحن أقرب إليه من حبل الوريد﴾.
فالله سبحانه أشار في هذه الآية المباركة إلى حقيقتين، الحقيقة الأولى: وهو انه هو الخالق للإنسان وبالتالي هو الاعرف بحقيقة تكوينه والغاية التي كان من أجلها هذا الخلق، والمقصود هنا ليس فقط الخلق والتركيب المادي وإنما النفسي والروحي، فالتركيب المادي يمكن للإنسان أن يتوصل اليه والوسائل المادية التي يحافظ بها عليه وهي وظيفة الطب.
والحقيقة الثانية: إن هذه التركيبة الروحية هو الأعلم بها، ولأن خريطتها تبلغ من التعقيد ما لا قدرة لغيره على معرفة دقائقها واختص الحفاظ على سلامتها به {ونعلم ما توسوس به نفسه ۖ ونحن أقرب إليه من حبل الوريد}.
وهو ما تعجز عن اكتشافه تجارب البشر لأن المرض والعلة الحقيقية ليست في الابدان وأن يصيب النفوس والارواح ويعيق الانسان عن القيام بالوظيفة انما هو روحية أيضا وهي مدخل وسوسة الشيطان الذي يضل الإنسان الطريق والهدف".
وتابع :" إن حال الجسد هو كون آخر لحقيقة الإنسان التي هي الروح والعقل والقلب، فهو عبارة عن الآلة التي يستخدمها الإنسان للوصول إلى الغاية يمارس عبرها التعبير عن مظاهر العبودية والارتباط بالله تعالى والخشوع والخضوع له، أما حقيقة العبودية فهي العبودية عبر الروح والارادة والقلب، ولأن الله تعالى وحده العالم بحقائقها ولأنه صاحب الغاية من الخلق فلا يمكن لغيره أن يرسم لها خارطة الطريق التي توصلها إلى تحقيق هذا الغرض.
اما الغرض من الخلق فقد حدده وهو العبودية له سبحانه، قال تعالى {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} وهي غاية لصلاح الإنسان، فالله غني عن عبادتنا وقد تحدثنا في خطبة سابقة عن هذا الموضوع فالعبودية التكوينية هي بالخلق والصنع وبالسنن التكوينية، غاية الامر أن الانسان أعطي الاختيار في الاقرار بها في دائرة هذه السنن.
وبهذا الاختيار بالإقرار يكون الاختبار، والنجاح في هذا الاختبار يتعلق بمدى الالتزام بخريطة الطريق التي وضعها الله سبحانه للإنسان، وهي تتعلق بجملة من التعاليم والآداب التربوية والسلوكية قبل أن يكون الانسان جنينا تبدأ بالزواج والحمل والولادة ثم الطفولة وهي من مهمات الأبوين إلى أن يرشد ويكون مؤهلا لتحمل المسؤولية وهكذا تستمر المسؤولية معه إلى أن يغادر هذه الحياة وهذه المسؤولية تتكامل مع مسؤولية الجماعة فالانسان يؤثر ويتأثر بالبيئة التي يعيش فيها.
أما تطوير الاساليب التربوية والسلوك فهي من مهمة الجهات المختصة في هذا الشأن وهي تخضع للبحث والتجارب العلمية ومن الضروري الاستفادة في هذا الجانب مما توصلت اليه البحوث في مراكز الدراسات المختصة في الدول المتقدمة في هذا المضمار".
وقال :"إن الذي يدعوني إلى تناول هذا الجانب وهو مهم على كل حال، ولكن الذي يجعله أكثر أهمية هو خطورة ما ابتليت به مجتمعاتنا وأسرنا من آفات أخلاقية وسلوكية تنذر بأشد الأخطار تدعو إلى استنفار كل طاقاتنا من أجل مكافحتها وجعلها أولوية الأولويات لدينا، لأن قوة أي مجتمع إنما تقوم على وحدة الثقافة والانتماء والتربية والقدرة على مواجهات الانحرافات الاجتماعية والثقافية والاخلاقية والسلوكية التي اذا ما تركت تستفحل في مجتمعاتنا، فهو الخراب ومنه نؤتى وتفتح الباب للعدو لاستخدامه سلاحا أفعل في نتائجه من الحرب العسكرية، فالهزيمة في الميدان العسكري يمكن أن تحوله إلى نصر حينما تكون ثقافة وعقيدة وآداب المجتمع قوية وثابتة"
أضاف :" إن المغول انتصروا على الدولة في العهد العباسي ولكنهم لم ينتصروا على الأمة فأسلموا وتطبعوا بطابع الأمة ثقافيا ودينيا وأخلاقيا وأصبحوا جزءا من أمة الإسلام، ولكن ما نواجهه اليوم ليس حربا عسكرية محضة وإنما يخوض أعداؤنا اليوم أشرس حربهم مع أمتنا بالثقافة والأخلاق، وهم يمزقون شملنا حيث تركت الانظمة بين ايديهم وضع انظمتنا وبرامجنا التربوية والثقافية بعد وضع ايديهم على وسائل الإعلام والاعلان التي تروج لثقافة الفساد الأخلاقي والاجتماعي والسياسي وتفريغ النشء من أي مضمون أو هدف ذي قيمة في الحياة، بل ليكون ضائعا يمشي دون هدف فضلا عن إثارة الفتن الطائفية والمذهبية وخلت البرامج المدرسية من التربية على القيم الدينية والوطنية بعد تشويه الدين لدى الرأي العام وتحميله أسباب الفتن والفساد السياسي والاجتماعي والإداري نتيجة الضخ الإعلامي والانحرافات التي يمارسها البعض من الملتحفين بغطاء الدين، ومن ثم تحميلها لقوى المقاومة التي تلاقي للأسف رواجا لدى بعض الفئات في مجتمعاتنا العربية والاسلامية ومنها لبنان، وخلقت حالة من سوء الفهم داخل كل دولة من دولنا وهو ما يفسر الموقف من المعركة التي يخوضها الغرب اليوم ضد الشعب الفلسطيني، مما يستدعي وخصوصا من القوى المستهدفة بخلق إسفين بين قوانا الداخلية ما يستدعي منها ومن المخلصين أخذ المبادرة للتواصل مع القوى الاخرى وخلق الثقة بينها لإفشال هذه المؤامرة، وهذه المهمة لا تقتصر على قوى المقاومة وإنما نأمل من بعض الدول وخصوصا العربية منها الحريصة على وحدة الامة أن تبادر إلى وضع خطة للتواصل والحوار تفضي إلى حل للتعقيدات والاشكالات التي أوصلت الأمور إلى ما هي عليه الآن، لأن ما حصل حتى الآن تجاوز المقبول وأكثر من كاف في أخذ العبرة لتصحيح المسار".
واستطرد الخطيب :" كما ندعو القوى السياسية الداخلية في لبنان إلى سلوك هذا المسار لتخفيف الخسائر ووضع حد للانهيار والحفاظ على ما تبقى من الوطن، فالوطن لا يقوم بالكسر والانكسار وانما بالتلاقي والحوار والتفهم والتفاهم بين أبنائه ومكوناته، كما لا يقوم برفع السقوف وإنما بالواقعية السياسية والتواضع بين القوى السياسية المختلفة، فلا محل لشعار الطلاق بين اللبنانيين لأننا محكومون بواقع لا يمكن تجاوزه لأحد وهو أن لبنان وطن نهائي لبنيه وبثقافة الدين الذي يدعو الى توثيق العرى بين المختلفين: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم}، وأن نعلم أن المقاومة الى جانب الجيش والشعب هي حتى الآن الوسيلة الوحيدة للدفاع عن حدود الوطن وسيادته حتى نتفاهم على وسيلة اخرى نتفق عليها تحقق هذا الهدف وهذا لا طريق إلى بلوغه الا بالحوار او التشاور فلا مشكلة في التسميات كمدخل لانتخاب رئيس للجمهورية، فلنتواضع جميعا من أجل الوطن بدل الرهانات الخاسرة التي تضر بالوطن".
واردف:"أما في موضوع الحرب على الشعب الفلسطيني في غزة والضفة الغربية فقد سقطت الامم المتحدة ومنظماتها ومجلس الامن والقانون الدولي بالضربة الغربية القاضية التي جاء ممثل الاتحاد الأوروبي بالأمس ليعلن وفاتها والتهيؤ لدفنها متأخرا بعد أن تعفنت وفاحت رائحتها النتنة، فهي لم توجد الا كغطاء لتحقيق غاياتهم الخبيثة وليس لتحقيق العدالة الدولية كما يدعون، وهذا يؤكد اليوم أن الحق المغتصب لا يعطى بقوة القانون بل يؤخذ بقوة أهله والتضحيات التي هم على استعداد لتقديمها، فلا محل للضعفاء في هذا العالم".
وختم :" تحية للجنوب وتحية للجنوبيين الشرفاء والاوفياء، تحية لجبل عامل جبل الإباء والصمود، وتحية لغزة والضفة وأهلها الشرفاء الصابرين في معركة البطولة والفداء، تحية للمقاومة في جنوب الفداء، وتحية الفخار للشهداء الابطال الذين روت دماؤهم ساحات الوغى دفاعا عن لبنان وعن سيادته ليبقى أرزه شامخا وشعبه مرفوع الرأس لن يذل.
{ ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين}.
الذين قال الله تعالى فيهم: { وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون".