الدراسة الجامعية: تخبّطٌ… وتخصّصات للميسورين فقط!
زينب حمود
12 أيلول 2024 06:26
كتبت زينب حمّود في "الأخبار":
يزداد الشرخ بين تخصّصات الخرّيجين ومتطلبات السوق اللبنانية، ربطاً بـ«سوريالية» معايير اختيار التخصّص الجامعي، والتي تشمل «رغبة الأهل، نصيحة الأقارب والمعارف، تقليد الصديق المقرّب، المكانة الاجتماعية للمهنة، عدم إيجاد خيار آخر...»، إضافة إلى معيار استجدّ مع الأزمة الاقتصادية، وهو القدرة على تحمّل الأعباء المادية للتخصّص. والنتيجة: توزيع طبقي للتخصّصات وبطالة بنسبة 85% بين الخرّيجين.يُصدم العديد من الطلاب في الأسابيع الأولى من التعليم الجامعي بالتخصّص الذي اختاروه وكيف يتعارض مع تصوراتهم حوله، وتتأخر الصدمة أحياناً إلى ما بعد التخرّج، كما حصل مع جوليا التي درست التمريض «وعندما بدأتُ العمل فيه لاحظت أنّه لا يناسبني لأنني أخاف من الدم»! ولم يعرف فؤاد أنّ مجالات العمل في علوم الحياة محدودة حتى أنهى سنوات الدراسة، فاضطرّ إلى البدء من جديد في دراسة المعلوماتية. ويظهر هذا الضياع وهذا التخبّط بشكل أساسي في أواخر المرحلة الثانوية عندما يحتار التلامذة في اختيار التخصص الجامعي المناسب، نظراً إلى «تضارب الآراء التي أسمعها حول التخصص المطلوب في سوق العمل، سمعتُ نصائح كثيرة عن التخصّص في مجال المعلوماتية والذكاء الاصطناعي الذي لا أحبه، لكنّ المشكلة الأساسية أنني لا أعرف ما هو الاختصاص الذي أحبه»، كما تقول سيرين، الطالبة في الثالث الثانوي.
ويعود ضياع الطلاب والتلامذة بشكل أساسي إلى غياب التوجيه وفق ثلاثية: الميول، القدرات ومتطلبات سوق العمل. فالجامعات تزور طلاب المرحلة الثانوية للتسويق للتخصصات الموجودة لديها من دون أن تجيب عن تساؤلاتهم حول تفصيل المقرّرات والمناهج ومجالات العمل في كل تخصّص، ولا تولي أهمية لخصوصية كل طالب وميوله ورغباته وإمكاناته ومهاراته. ولو فعلت، «لا يكفي أن تؤمّن المدارس التواصل مع الجامعات أو الجمعيات المعنية بالتوجيه ليوم واحد أو يومين حتى يتعرّفوا إلى التخصّصات المناسبة لهم ويحسموا خيارهم، غير أنّه ليس جميع المعنيين في التعريف والتوجيه مؤهّلين لفعل ذلك»، كما تقول الباحثة في الأنثربولوجيا والإعلام ليلى شمس الدين.
يأتي ذلك رغم صدور القانون الرقم 255 عام 2022 الذي ينصّ على إدخال مواد مهنية في التعليم الأكاديمي، ودمج المدارس للتوجيه العلمي في برامجها، ليستكشف التلامذة قدراتهم الذاتية ويحدّدوا خياراتهم المهنية. وبحسب مصادر المركز التربوي للبحوث والإنماء، «يعكف الخبراء المشاركون في ورشة تطوير المناهج التربوية على ترجمة مواد القانون من خلال وضع مناهج لأنشطة حياتية ومهنية يتذوّق من خلالها التلميذ المهن في المراحل الدراسية الأولى، لتزويده بالكفايات التي تساعده على اتخاذ القرارات بالنسبة إلى المهنة التي سيختارها. أما التوجيه المهني في المراحل الدراسية المتقدّمة ولا سيما الثانوية فسيكون مبنياً على ميول الطالب وذكائه».
إلى غياب التوجيه، لا يزال الأهل، وإن بصورة أضيق عن السنوات السابقة، يلعبون دوراً مهماً في اتجاهات أولادهم غير المدروسة بسبب الضغوطات التي يمارسونها عليهم لتوارث مهنة العائلة، كأن يكون ابن الطبيب طبيباً، وابن المهندس مهندساً حكماً، إلى جانب إسقاط أحلامهم على أولادهم متأثّرين بالصورة التي يرسمها المجتمع لمهنة ما، ولا سيما الطب والهندسة، بصرف النظر عن إمكانات أبنائهم ورغباتهم. ويحصل الأهل أحياناً على رغبتهم إما بإجبار أولادهم، من باب أنهم المسؤولون عن تسديد أقساطهم، أو عبر استغلال ضياعهم. لم يهضم توفيق، مثلاً، كيف يختار ابنه علم النفس، «فيما الخيارات مفتوحة أمامه لدراسة الطب أو الهندسة بعدما حصل على منحة للتعليم في جامعة مرموقة». ورسبت ريم في الفصل الأول من سنتها الجامعية الأولى بعدما اختارت الطب، نزولاً عند رغبة والدتها، فيما هي تحبّ الهندسة المعمارية وتملك موهبة في الرسم. ويظهر صراع الأجيال حول التخصّص الجامعي أكثر مع التطورات التكنولوجية والرقمية المتسارعة، إذ «برزت أخيراً ميول لدى الجيل Z لدراسة علوم الكمبيوتر، ومنهم من يختارون عدم الالتحاق بالجامعة كونهم قادرين على تحصيل أموال طائلة من دون تكديس الشهادات»، وفق شمس الدين.
رغم كل ما سبق، «تبقى اليد الطولى لاختيار التخصّص الجامعي والكلمة الفصل بعد الأزمة الاقتصادية للإمكانات المادية، كما أظهرت إحدى الدراسات. وتتشعّب منها القدرة على تسديد الأقساط، وبدلات النقل إلى الجامعة، وعدد سنوات الدراسة قبل الانتقال إلى سوق العمل، وسهولة التخصّص لجهة مواد الحفظ والحضور الإلزامي بما يتيح العمل والدراسة معاً. ذلك أنه أكثر من نصف الطلاب يختارون تخصّصهم بما يتناسب مع ظروفهم الاقتصادية أو الاجتماعية أو الجغرافية (أي مكان سكنهم). وبرز حديثاً هاجس إيجاد عمل يجني ربحاً سريعاً ووفيراً» بحسب شمس الدين.
ويظهر أثر الأزمة الاقتصادية على خيارات الطلاب من خلال «ارتفاع عدد طلبات المنح الدراسية التي تردنا من حوالى 150 إلى 200 طلب قبل الأزمة، كنا نختار منها نحو 80 طلباً، إلى أكثر من 800 طلب اليوم، ندرسها بدقّة بسبب تراجع إمكانات الجمعية المادية، ومن دون أن نستبعد طبقات كنا نجدها ميسورة مثل أبناء الضباط والأطباء وغيرهم ممن يواجهون تحديات لدفع الرسوم الجامعية»، كما يشير أمين سر «جمعية التخصّص والتوجيه العلمي» واصف شرارة. وأمام غلاء الأقساط في الجامعات وعدم توفّر جميع التخصّصات في كلّ فروع «جامعة الفقراء»، وارتفاع فاتورة المواصلات، يتخوّف المدير العام للمركز الإسلامي للتوجيه والتعليم العالي علي زلزلة من «أن تصبح تخصّصات معينة حكراً على الأغنياء والطبقة الميسورة فقط، فدراسة الطب مثلاً تبلغ كلفتها بالحد الأدنى 18 ألف دولار في السنة».
في النتيجة، يساهم سوء اختيار التخصّص الجامعي في الفائض في تخصّصات ونقص في أخرى، مثل «التخمة في خرّيجي الطب والهندسة وسوء توزيع التخصّصات ضمن كل مجال منهما، وفق حاجة السوق لها، حتى في الدراسات العليا هناك سوء توجيه للمجالات المطلوبة مثل الحقوق والهندسة المالية والطبية»، وفق شرارة. وعليه، يمكن فهم أحد أسباب البطالة المضخّمة، التي تبلغ «85% بين الخرّيجين»، وفق إحدى الدراسات، والذين «إما يتابعون الدراسات العليا أو ينتظرون فرصة للهجرة»، على ما يقول زلزلة، منتقداً «عدم التدخّل الحكومي لخلق فرص عمل في تخصّصات مثل الإرشاد الاجتماعي حيث يمكن عبر التشريع فرض وضع مرشد على كل 200 تلميذ، أو فتح مجالات أوسع لدراسة اختصاصات مطلوبة، مثل الطب البيطري الذي لا يتوفر إلا في الجامعة اللبنانية لـ 25 طالباً في السنة فقط، فيما الحاجة أكبر من ذلك. إلى جانب عدم مواكبة التطورات خاصة في ظلّ الذكاء الاصطناعي، مثل خلق تخصّصات جديدة أو أدوات ومناهج جديدة، عدا فقدان التوجيه للتعليم المهني والمهن الحرفية والصناعية، وسوء توزيع التخصّصات على المناطق».
يزداد الشرخ بين تخصّصات الخرّيجين ومتطلبات السوق اللبنانية، ربطاً بـ«سوريالية» معايير اختيار التخصّص الجامعي، والتي تشمل «رغبة الأهل، نصيحة الأقارب والمعارف، تقليد الصديق المقرّب، المكانة الاجتماعية للمهنة، عدم إيجاد خيار آخر...»، إضافة إلى معيار استجدّ مع الأزمة الاقتصادية، وهو القدرة على تحمّل الأعباء المادية للتخصّص. والنتيجة: توزيع طبقي للتخصّصات وبطالة بنسبة 85% بين الخرّيجين.يُصدم العديد من الطلاب في الأسابيع الأولى من التعليم الجامعي بالتخصّص الذي اختاروه وكيف يتعارض مع تصوراتهم حوله، وتتأخر الصدمة أحياناً إلى ما بعد التخرّج، كما حصل مع جوليا التي درست التمريض «وعندما بدأتُ العمل فيه لاحظت أنّه لا يناسبني لأنني أخاف من الدم»! ولم يعرف فؤاد أنّ مجالات العمل في علوم الحياة محدودة حتى أنهى سنوات الدراسة، فاضطرّ إلى البدء من جديد في دراسة المعلوماتية. ويظهر هذا الضياع وهذا التخبّط بشكل أساسي في أواخر المرحلة الثانوية عندما يحتار التلامذة في اختيار التخصص الجامعي المناسب، نظراً إلى «تضارب الآراء التي أسمعها حول التخصص المطلوب في سوق العمل، سمعتُ نصائح كثيرة عن التخصّص في مجال المعلوماتية والذكاء الاصطناعي الذي لا أحبه، لكنّ المشكلة الأساسية أنني لا أعرف ما هو الاختصاص الذي أحبه»، كما تقول سيرين، الطالبة في الثالث الثانوي.
ويعود ضياع الطلاب والتلامذة بشكل أساسي إلى غياب التوجيه وفق ثلاثية: الميول، القدرات ومتطلبات سوق العمل. فالجامعات تزور طلاب المرحلة الثانوية للتسويق للتخصصات الموجودة لديها من دون أن تجيب عن تساؤلاتهم حول تفصيل المقرّرات والمناهج ومجالات العمل في كل تخصّص، ولا تولي أهمية لخصوصية كل طالب وميوله ورغباته وإمكاناته ومهاراته. ولو فعلت، «لا يكفي أن تؤمّن المدارس التواصل مع الجامعات أو الجمعيات المعنية بالتوجيه ليوم واحد أو يومين حتى يتعرّفوا إلى التخصّصات المناسبة لهم ويحسموا خيارهم، غير أنّه ليس جميع المعنيين في التعريف والتوجيه مؤهّلين لفعل ذلك»، كما تقول الباحثة في الأنثربولوجيا والإعلام ليلى شمس الدين.
يأتي ذلك رغم صدور القانون الرقم 255 عام 2022 الذي ينصّ على إدخال مواد مهنية في التعليم الأكاديمي، ودمج المدارس للتوجيه العلمي في برامجها، ليستكشف التلامذة قدراتهم الذاتية ويحدّدوا خياراتهم المهنية. وبحسب مصادر المركز التربوي للبحوث والإنماء، «يعكف الخبراء المشاركون في ورشة تطوير المناهج التربوية على ترجمة مواد القانون من خلال وضع مناهج لأنشطة حياتية ومهنية يتذوّق من خلالها التلميذ المهن في المراحل الدراسية الأولى، لتزويده بالكفايات التي تساعده على اتخاذ القرارات بالنسبة إلى المهنة التي سيختارها. أما التوجيه المهني في المراحل الدراسية المتقدّمة ولا سيما الثانوية فسيكون مبنياً على ميول الطالب وذكائه».
إلى غياب التوجيه، لا يزال الأهل، وإن بصورة أضيق عن السنوات السابقة، يلعبون دوراً مهماً في اتجاهات أولادهم غير المدروسة بسبب الضغوطات التي يمارسونها عليهم لتوارث مهنة العائلة، كأن يكون ابن الطبيب طبيباً، وابن المهندس مهندساً حكماً، إلى جانب إسقاط أحلامهم على أولادهم متأثّرين بالصورة التي يرسمها المجتمع لمهنة ما، ولا سيما الطب والهندسة، بصرف النظر عن إمكانات أبنائهم ورغباتهم. ويحصل الأهل أحياناً على رغبتهم إما بإجبار أولادهم، من باب أنهم المسؤولون عن تسديد أقساطهم، أو عبر استغلال ضياعهم. لم يهضم توفيق، مثلاً، كيف يختار ابنه علم النفس، «فيما الخيارات مفتوحة أمامه لدراسة الطب أو الهندسة بعدما حصل على منحة للتعليم في جامعة مرموقة». ورسبت ريم في الفصل الأول من سنتها الجامعية الأولى بعدما اختارت الطب، نزولاً عند رغبة والدتها، فيما هي تحبّ الهندسة المعمارية وتملك موهبة في الرسم. ويظهر صراع الأجيال حول التخصّص الجامعي أكثر مع التطورات التكنولوجية والرقمية المتسارعة، إذ «برزت أخيراً ميول لدى الجيل Z لدراسة علوم الكمبيوتر، ومنهم من يختارون عدم الالتحاق بالجامعة كونهم قادرين على تحصيل أموال طائلة من دون تكديس الشهادات»، وفق شمس الدين.
رغم كل ما سبق، «تبقى اليد الطولى لاختيار التخصّص الجامعي والكلمة الفصل بعد الأزمة الاقتصادية للإمكانات المادية، كما أظهرت إحدى الدراسات. وتتشعّب منها القدرة على تسديد الأقساط، وبدلات النقل إلى الجامعة، وعدد سنوات الدراسة قبل الانتقال إلى سوق العمل، وسهولة التخصّص لجهة مواد الحفظ والحضور الإلزامي بما يتيح العمل والدراسة معاً. ذلك أنه أكثر من نصف الطلاب يختارون تخصّصهم بما يتناسب مع ظروفهم الاقتصادية أو الاجتماعية أو الجغرافية (أي مكان سكنهم). وبرز حديثاً هاجس إيجاد عمل يجني ربحاً سريعاً ووفيراً» بحسب شمس الدين.
ويظهر أثر الأزمة الاقتصادية على خيارات الطلاب من خلال «ارتفاع عدد طلبات المنح الدراسية التي تردنا من حوالى 150 إلى 200 طلب قبل الأزمة، كنا نختار منها نحو 80 طلباً، إلى أكثر من 800 طلب اليوم، ندرسها بدقّة بسبب تراجع إمكانات الجمعية المادية، ومن دون أن نستبعد طبقات كنا نجدها ميسورة مثل أبناء الضباط والأطباء وغيرهم ممن يواجهون تحديات لدفع الرسوم الجامعية»، كما يشير أمين سر «جمعية التخصّص والتوجيه العلمي» واصف شرارة. وأمام غلاء الأقساط في الجامعات وعدم توفّر جميع التخصّصات في كلّ فروع «جامعة الفقراء»، وارتفاع فاتورة المواصلات، يتخوّف المدير العام للمركز الإسلامي للتوجيه والتعليم العالي علي زلزلة من «أن تصبح تخصّصات معينة حكراً على الأغنياء والطبقة الميسورة فقط، فدراسة الطب مثلاً تبلغ كلفتها بالحد الأدنى 18 ألف دولار في السنة».
في النتيجة، يساهم سوء اختيار التخصّص الجامعي في الفائض في تخصّصات ونقص في أخرى، مثل «التخمة في خرّيجي الطب والهندسة وسوء توزيع التخصّصات ضمن كل مجال منهما، وفق حاجة السوق لها، حتى في الدراسات العليا هناك سوء توجيه للمجالات المطلوبة مثل الحقوق والهندسة المالية والطبية»، وفق شرارة. وعليه، يمكن فهم أحد أسباب البطالة المضخّمة، التي تبلغ «85% بين الخرّيجين»، وفق إحدى الدراسات، والذين «إما يتابعون الدراسات العليا أو ينتظرون فرصة للهجرة»، على ما يقول زلزلة، منتقداً «عدم التدخّل الحكومي لخلق فرص عمل في تخصّصات مثل الإرشاد الاجتماعي حيث يمكن عبر التشريع فرض وضع مرشد على كل 200 تلميذ، أو فتح مجالات أوسع لدراسة اختصاصات مطلوبة، مثل الطب البيطري الذي لا يتوفر إلا في الجامعة اللبنانية لـ 25 طالباً في السنة فقط، فيما الحاجة أكبر من ذلك. إلى جانب عدم مواكبة التطورات خاصة في ظلّ الذكاء الاصطناعي، مثل خلق تخصّصات جديدة أو أدوات ومناهج جديدة، عدا فقدان التوجيه للتعليم المهني والمهن الحرفية والصناعية، وسوء توزيع التخصّصات على المناطق».