الحربُ في لبنان و"هديرها" في... الاغتراب
30 آب 2024 06:05
جاء في "الراي" الكويتية:
على جمر الحرب يسير اللبنانيون منذ 8 تشرين الأول الماضي، يتأرجحون مع تقلّباتها بين هبّة باردة وهبّة ساخنة، ويعاودون مع كل «ارتقاءٍ» في جولاتها ضبْطَ «وضعيةِ التكيّف» بإزاء واقعٍ باتت البلاد برمّتها ترتدي معه «المرقّط»، وكأن كل عجلات الاقتصاد والسياحة والحياة اليومية باتت تجرّها عربةُ مواجهةٍ عسكرية لا مكان للدولة في «قمرة قيادتها».
وإذا كان لبنانيو الداخل احترفوا الرقصَ على «حافةِ الهاوية» وتَأَقْلَموا مع قرقعةِ «حرب المشاغَلة» وتَبَدُّل اتجاهاتِ رياحها الساخنة التي كادت أن تتحوّل «إعصارَ نارٍ» في الأحد المشهود، بعصْفِ الغارات الإسرائيلية «الاستباقية» وهدير صواريخ «حزب الله» ومسيّراته التي ردّت على اغتيال القيادي الكبير فيه فؤاد شكر في الضاحية الجنوبية لبيروت قبل شهر، فإن المغتربين المنتشرين في أصقاع الأرض يتعايشون مع ما يَجْري في وطنهم الأم وكأنّه يصيبهم حيث هم... فـ«الجَمرة التي لا تحرق إلا محلّها» صارت في كل مكانٍ، مع «ولاد البلد» الذين تَمَدّد معهم الوطنُ الصغير إلى المعمورة، يقيم في قلوبهم التي تعتصر قلقاً وألماً على الأهل والأقرباء ولسان حالهم كما فيروزتهم في «سألوني شو صاير ببلد العيد».
في فجر الغارات والصواريخ، قبل صياح الديك، وفيما كان المقيمون مازالوا في غفوتهم، بلغتْ طبولُ الحرب الواسعة اللبنانيينَ الساهرين في الأميركيتين وكندا ومَن كانوا يمضون فترة قبل الظهر في استراليا، الذين تلقّوا «الأخبار العاجلة» وتسمّروا لمتابعة ما يجري بذهول وذعر، فكانوا أقرب إلى الحدَث من لبنانيي الداخل البعيدين عن أرض الجنوب. وكان الكثير من هؤلاء بمثابة الـ wake up call، فأيقظوا باتصالاتٍ باكية الأهلَ من نومهم، وألحوّا عليهم المغادرة إلى أماكن آمنة، بعدما هالهم من بُعد ما سمعوه ورأوه على الشاشات، واعتقدوا أن الأسوأ صار وشيكاً خارج مسرح الاشتباك «المألوف».
لبنان في قلبهم
«نحن المهاجرون الجدد إلى أستراليا منذ عشر أو 15 عاماً لانزال على اتصال وثيق جداً بلبنان وأخباره»، تقول السيدة نادين قزيلي الناشطة المجتمعية في ملبورن «فأهلنا لايزالون هناك تحت الخطر ووسائل التواصل قرّبت المسافات بيننا وبين الوطن الجريح وحدّثتْ كل أخباره. محطات التلفزيون العربية والتطبيقات الإخبارية اللبنانية كلها موجودة على هواتفنا وفي بيوتنا، والإعلام الأسترالي ينقل بدوره أخبار الشرق الأوسط بشكل دائم». وتضيف: «لا نشعر بأننا غادرنا لبنان ولاتزال ردات فعلنا ذاتها كما لو كنا نعيش على أرض الوطن. نخاف على عائلاتنا الباقية هناك وينشغل بالنا على أحبائنا ونتابع لحظة بلحظة ما يجري، حتى أننا نعرف ببعض الأخبار قبلهم كما حدث يوم الضربة الإسرائيلية فجر 25 الجاري. أمي مثلاً تنام وتصحو أمام الشاشة لمتابعة الأخبار وتسمع جدار الصوت في ملبورن قبل أن يسمعوه في لبنان... لقد تردد دوي الغارات الإسرائلية على الجنوب في بيتنا قبل أن تدوي ربما على أرض الواقع».
المهاجرون القدامى الذين تَركوا لبنان قبل خمسين عاماً وأكثر وبنوا حياة لهم وعائلات في بلدان الاغتراب لا يزالون يغارون على لبنان ويتابعون أخباره عبر المحطات اللبنانية في بيوتهم. وقد نقلوا هذا الاهتمام الى أبنائهم حتى وإن كانوا لا يجيدون اللغة العربية، ولكنهم لا يشعرون بذاك القلق والخوف الذي ينتاب مَن لا تزال له عائلة وأهل وأقارب يخاف عليهم في لبنان.
ورغم ذلك، تقول قزيلي «يحاول هؤلاء جاهدين مساعدة بلدهم الأم بما يستطيعونه، وقد تجلى ذلك بوضوح بعد انفجار مرفأ بيروت وأزمة فقدان الأدوية، وكذلك بعد النزوح الذي عاشه أهل الجنوب إثر حرب المشاغلة. وكثيرون ممن ولدوا في الاغتراب يقومون بمبادرات للإعانة والمساعدة فيرسلون شحنات من الأدوية مثلاً إلى لبنان لأن حب الوطن يسري في دمهم».
بدورها تقول السيدة ريما فتح الله: «لا استطيع النوم رغم كوني في ملبورن أكثر مدن العالم آماناً. فأنا أمضي وقتي أمام الشاشات وأتابع وسائل التواصل لأعرف كل ما يحدث في لبنان. حتى أبسط الحوادث تتحول عندي مصدراً للخوف والقلق، رغم أنني أعرف جيداً أن أشقائي في بيروت يخرجون الى أعمالهم ويسهرون ويعيشون حياتهم ببساطة ويقولون لي دائماً إن لا داعي للقلق. لكن البُعد يفاقم المخاوف ويعزز الشعور بالانتماء. ويساهم الإعلام الأجنبي في تعزيز هذه الصورة المبالَغ فيها. وفي الحقيقة أنا لست ابنة الجنوب لكنني أشعر اليوم بأنني واحدة من أبنائه، أتابع ما يحدث على أرضه من اعتداءات إسرائيلية وأرفع الأدعية والصلوات ليحمي الله لبنان وأبناء الجنوب».
تناقضات سياسية
لا شك أن المغتربات كما الوطن تحمل تناقضاتٍ سياسيةً وآراء متباينة. والأحزاب المتخاصمة نفسها موجودة في كل بلدان الانتشار ولها مناصروها ومحازبوها، وقد تكون لديهم اختلافاتهم لكنهم يُجمعون اليوم، كما يقول هاشم عواد الذي يعيش في سيدني، على فكرة أن لبنان لا يحتمل حرباً و يكفي أهله ما يعيشونه من فقر وأزمة مالية، «والحرب الدائرة اليوم مهما تكن مبرراتها تشكل عبئاً إضافياً على كاهل أهل لبنان» من دون أن ينفي حبه للمقاومة وتقديره لدورها.
صورة مكبّرة عن لبنان وانقساماته
جورج جبور الأستاذ الجامعي المغترب في الولايات المتحدة منذ عقود لم يقطع صلاته مطلقاً بلبنان، فهو يتابع أخباره عبر المحطات والصحف الرقمية إضافة الى علاقاته بأشخاص مطلعين في لبنان. لكنه يقول «أكثر ما يقلقنا نحن المغتربون هو هذا التناقض وعدم الانسجام بين اللبنانيين واختلافهم حول رؤية موحّدة للبنان وما يجب أن يكون عليه، وكأنها القصة القديمة ذاتها تتجدد منذ الحرب الأهلية».
ويضيف: «فالحرب الدائرة رحاها اليوم في الجنوب اللبناني وما يسقط فيها من ضحايا لم توحّد اللبنانيين، كما لم توحّدهم قبلها المطالبة بالعدالة لضحايا المرفأ والاقتصاص من المتسببين بالكارثة أو المطالبة بمحاسبة مَن سرق أموالهم ونهب مدخرات عمرهم. وهذا الانقسام الدائم يحزّ في نفوس المغتربين ويدفع ببعضهم الى إدارة ظهره ولو شكلياً الى شؤون لبنان وشجونه».
وتقول كورين، الصبية التي تعيش في باريس منذ عشر سنوات: «لماذا أفكر بلبنان إذا كان المسؤولون فيه يَتركون لحزبٍ مسلّحٍ أن يقوده الى الحرب من دون أن يكون للدولة اللبنانية أو للبنانيين الآخَرين رأي في ذلك. لبنان كبلد موحّد انتهى بالنسبة لي وصار بلداً مفككاً، بلد الأحقاد والفساد واللادولة، وما يهمني هو أن يكون أهلي بخير، أما مستقبل البلد فلم يعد يعنيني».
ما تقوله تلك الصبية بحرقةِ لا يوافق عليه أكثر مَن تغرّبوا قسراً عن بلدهم. فلبنان لايزال في صميم وجدانهم وقلوبهم رغم الاختلافات السياسية والأيديولوجية.
وائل الذي يعيش ويعمل في نيجيريا لم يشعر يوماً بأنه بعيد عن لبنان خصوصاً اليوم في ظروف الحرب. قلبه مع الجنوب والبقاع وكل بقعة تتعرض لاعتداء إسرائيلي ويرى «ان لبنان اليوم يقاوم ليعيش بكرامة وعزة وليس حباً بالحرب، ويتمنى لو كان قادراً على التواجد مع أهله في بلدة جباع في النبطية».
ويقول: «تدمع عيناي كلما سمعتُ بخبر قصفٍ أو غارة على الجنوب الذي يضحّي فداء عن الوطن أو عرفتُ أن شهيداً سقط، أشعر بالظلم حين أسمع أخباراً عن كون البعض يرفضون استقبال أبناء الجنوب النازحين. الوقت اليوم ليس للسياسة بل للموقف الإنساني والأخوّة الوطنية. عيب أن نختلف اليوم وننقسم في ظل وجود عدو لا يريد لنا إلا الأذى».
أخبار مُضخّمة
أخبار الحرب تصل مضخَّمة الى المغتربات القريبة والبعيدة، والواقع اليومي الذي ألفه اللبنانيون وتعايشوا مع صعوباته ومخاطره يؤرق المغتربين وينغص عليهم حياتهم.
وتقول آمال الصايغ التي تعيش في واشنطن: «نحن نتخيل دائماً الأسوأ حين نقرأ في الصحف ولا سيما التي تصدر هنا مثل واشنطن بوست. فالمقالات التي تتناول لبنان لا تبشر بالخير ولا بنهاية قريبة للحرب الدائرة في فلسطين أو لبنان. كلما قرأتُ خبراً مقلقاً اتصل بأهلي للاطمئنان عليهم. لقد ربينا أولادنا وأحفادنا على حب لبنان وصاروا يعشقونه، لكننا لم نتمكن هذا الصيف من المجيء. خفنا وشعرنا بنوع من الشلل أربكنا وأجبرنا على البقاء بعيداً عن بلدنا وأهلنا. ورغم كل ما نراه عن استمرار الحياة في لبنان وما يقام فيه من حفلات فنية وترفيهية وأعراس كبرى، خشينا من النزول الى لبنان، وربما كانت خشيتنا أكبر بكثير من خشية المقيمين. وما علينا إلا الصلاة ليبقى لبنان وأهله آمنين في هذا الزمن الصعب».
... مغتربون جدد وقدامى، طلبة وسعاة رزق كبار شباب وأطفال يختلفون في الرأي، ينقسمون يتخاصمون، لكنهم يعيشون جميعهم في ظل شجرة وارفة الظلال تمتدّ جذورها في كل الأرض رغم ما يتآكلها من أمراض ومصائب تدعى... لبنان.
على جمر الحرب يسير اللبنانيون منذ 8 تشرين الأول الماضي، يتأرجحون مع تقلّباتها بين هبّة باردة وهبّة ساخنة، ويعاودون مع كل «ارتقاءٍ» في جولاتها ضبْطَ «وضعيةِ التكيّف» بإزاء واقعٍ باتت البلاد برمّتها ترتدي معه «المرقّط»، وكأن كل عجلات الاقتصاد والسياحة والحياة اليومية باتت تجرّها عربةُ مواجهةٍ عسكرية لا مكان للدولة في «قمرة قيادتها».
وإذا كان لبنانيو الداخل احترفوا الرقصَ على «حافةِ الهاوية» وتَأَقْلَموا مع قرقعةِ «حرب المشاغَلة» وتَبَدُّل اتجاهاتِ رياحها الساخنة التي كادت أن تتحوّل «إعصارَ نارٍ» في الأحد المشهود، بعصْفِ الغارات الإسرائيلية «الاستباقية» وهدير صواريخ «حزب الله» ومسيّراته التي ردّت على اغتيال القيادي الكبير فيه فؤاد شكر في الضاحية الجنوبية لبيروت قبل شهر، فإن المغتربين المنتشرين في أصقاع الأرض يتعايشون مع ما يَجْري في وطنهم الأم وكأنّه يصيبهم حيث هم... فـ«الجَمرة التي لا تحرق إلا محلّها» صارت في كل مكانٍ، مع «ولاد البلد» الذين تَمَدّد معهم الوطنُ الصغير إلى المعمورة، يقيم في قلوبهم التي تعتصر قلقاً وألماً على الأهل والأقرباء ولسان حالهم كما فيروزتهم في «سألوني شو صاير ببلد العيد».
في فجر الغارات والصواريخ، قبل صياح الديك، وفيما كان المقيمون مازالوا في غفوتهم، بلغتْ طبولُ الحرب الواسعة اللبنانيينَ الساهرين في الأميركيتين وكندا ومَن كانوا يمضون فترة قبل الظهر في استراليا، الذين تلقّوا «الأخبار العاجلة» وتسمّروا لمتابعة ما يجري بذهول وذعر، فكانوا أقرب إلى الحدَث من لبنانيي الداخل البعيدين عن أرض الجنوب. وكان الكثير من هؤلاء بمثابة الـ wake up call، فأيقظوا باتصالاتٍ باكية الأهلَ من نومهم، وألحوّا عليهم المغادرة إلى أماكن آمنة، بعدما هالهم من بُعد ما سمعوه ورأوه على الشاشات، واعتقدوا أن الأسوأ صار وشيكاً خارج مسرح الاشتباك «المألوف».
لبنان في قلبهم
«نحن المهاجرون الجدد إلى أستراليا منذ عشر أو 15 عاماً لانزال على اتصال وثيق جداً بلبنان وأخباره»، تقول السيدة نادين قزيلي الناشطة المجتمعية في ملبورن «فأهلنا لايزالون هناك تحت الخطر ووسائل التواصل قرّبت المسافات بيننا وبين الوطن الجريح وحدّثتْ كل أخباره. محطات التلفزيون العربية والتطبيقات الإخبارية اللبنانية كلها موجودة على هواتفنا وفي بيوتنا، والإعلام الأسترالي ينقل بدوره أخبار الشرق الأوسط بشكل دائم». وتضيف: «لا نشعر بأننا غادرنا لبنان ولاتزال ردات فعلنا ذاتها كما لو كنا نعيش على أرض الوطن. نخاف على عائلاتنا الباقية هناك وينشغل بالنا على أحبائنا ونتابع لحظة بلحظة ما يجري، حتى أننا نعرف ببعض الأخبار قبلهم كما حدث يوم الضربة الإسرائيلية فجر 25 الجاري. أمي مثلاً تنام وتصحو أمام الشاشة لمتابعة الأخبار وتسمع جدار الصوت في ملبورن قبل أن يسمعوه في لبنان... لقد تردد دوي الغارات الإسرائلية على الجنوب في بيتنا قبل أن تدوي ربما على أرض الواقع».
المهاجرون القدامى الذين تَركوا لبنان قبل خمسين عاماً وأكثر وبنوا حياة لهم وعائلات في بلدان الاغتراب لا يزالون يغارون على لبنان ويتابعون أخباره عبر المحطات اللبنانية في بيوتهم. وقد نقلوا هذا الاهتمام الى أبنائهم حتى وإن كانوا لا يجيدون اللغة العربية، ولكنهم لا يشعرون بذاك القلق والخوف الذي ينتاب مَن لا تزال له عائلة وأهل وأقارب يخاف عليهم في لبنان.
ورغم ذلك، تقول قزيلي «يحاول هؤلاء جاهدين مساعدة بلدهم الأم بما يستطيعونه، وقد تجلى ذلك بوضوح بعد انفجار مرفأ بيروت وأزمة فقدان الأدوية، وكذلك بعد النزوح الذي عاشه أهل الجنوب إثر حرب المشاغلة. وكثيرون ممن ولدوا في الاغتراب يقومون بمبادرات للإعانة والمساعدة فيرسلون شحنات من الأدوية مثلاً إلى لبنان لأن حب الوطن يسري في دمهم».
بدورها تقول السيدة ريما فتح الله: «لا استطيع النوم رغم كوني في ملبورن أكثر مدن العالم آماناً. فأنا أمضي وقتي أمام الشاشات وأتابع وسائل التواصل لأعرف كل ما يحدث في لبنان. حتى أبسط الحوادث تتحول عندي مصدراً للخوف والقلق، رغم أنني أعرف جيداً أن أشقائي في بيروت يخرجون الى أعمالهم ويسهرون ويعيشون حياتهم ببساطة ويقولون لي دائماً إن لا داعي للقلق. لكن البُعد يفاقم المخاوف ويعزز الشعور بالانتماء. ويساهم الإعلام الأجنبي في تعزيز هذه الصورة المبالَغ فيها. وفي الحقيقة أنا لست ابنة الجنوب لكنني أشعر اليوم بأنني واحدة من أبنائه، أتابع ما يحدث على أرضه من اعتداءات إسرائيلية وأرفع الأدعية والصلوات ليحمي الله لبنان وأبناء الجنوب».
تناقضات سياسية
لا شك أن المغتربات كما الوطن تحمل تناقضاتٍ سياسيةً وآراء متباينة. والأحزاب المتخاصمة نفسها موجودة في كل بلدان الانتشار ولها مناصروها ومحازبوها، وقد تكون لديهم اختلافاتهم لكنهم يُجمعون اليوم، كما يقول هاشم عواد الذي يعيش في سيدني، على فكرة أن لبنان لا يحتمل حرباً و يكفي أهله ما يعيشونه من فقر وأزمة مالية، «والحرب الدائرة اليوم مهما تكن مبرراتها تشكل عبئاً إضافياً على كاهل أهل لبنان» من دون أن ينفي حبه للمقاومة وتقديره لدورها.
صورة مكبّرة عن لبنان وانقساماته
جورج جبور الأستاذ الجامعي المغترب في الولايات المتحدة منذ عقود لم يقطع صلاته مطلقاً بلبنان، فهو يتابع أخباره عبر المحطات والصحف الرقمية إضافة الى علاقاته بأشخاص مطلعين في لبنان. لكنه يقول «أكثر ما يقلقنا نحن المغتربون هو هذا التناقض وعدم الانسجام بين اللبنانيين واختلافهم حول رؤية موحّدة للبنان وما يجب أن يكون عليه، وكأنها القصة القديمة ذاتها تتجدد منذ الحرب الأهلية».
ويضيف: «فالحرب الدائرة رحاها اليوم في الجنوب اللبناني وما يسقط فيها من ضحايا لم توحّد اللبنانيين، كما لم توحّدهم قبلها المطالبة بالعدالة لضحايا المرفأ والاقتصاص من المتسببين بالكارثة أو المطالبة بمحاسبة مَن سرق أموالهم ونهب مدخرات عمرهم. وهذا الانقسام الدائم يحزّ في نفوس المغتربين ويدفع ببعضهم الى إدارة ظهره ولو شكلياً الى شؤون لبنان وشجونه».
وتقول كورين، الصبية التي تعيش في باريس منذ عشر سنوات: «لماذا أفكر بلبنان إذا كان المسؤولون فيه يَتركون لحزبٍ مسلّحٍ أن يقوده الى الحرب من دون أن يكون للدولة اللبنانية أو للبنانيين الآخَرين رأي في ذلك. لبنان كبلد موحّد انتهى بالنسبة لي وصار بلداً مفككاً، بلد الأحقاد والفساد واللادولة، وما يهمني هو أن يكون أهلي بخير، أما مستقبل البلد فلم يعد يعنيني».
ما تقوله تلك الصبية بحرقةِ لا يوافق عليه أكثر مَن تغرّبوا قسراً عن بلدهم. فلبنان لايزال في صميم وجدانهم وقلوبهم رغم الاختلافات السياسية والأيديولوجية.
وائل الذي يعيش ويعمل في نيجيريا لم يشعر يوماً بأنه بعيد عن لبنان خصوصاً اليوم في ظروف الحرب. قلبه مع الجنوب والبقاع وكل بقعة تتعرض لاعتداء إسرائيلي ويرى «ان لبنان اليوم يقاوم ليعيش بكرامة وعزة وليس حباً بالحرب، ويتمنى لو كان قادراً على التواجد مع أهله في بلدة جباع في النبطية».
ويقول: «تدمع عيناي كلما سمعتُ بخبر قصفٍ أو غارة على الجنوب الذي يضحّي فداء عن الوطن أو عرفتُ أن شهيداً سقط، أشعر بالظلم حين أسمع أخباراً عن كون البعض يرفضون استقبال أبناء الجنوب النازحين. الوقت اليوم ليس للسياسة بل للموقف الإنساني والأخوّة الوطنية. عيب أن نختلف اليوم وننقسم في ظل وجود عدو لا يريد لنا إلا الأذى».
أخبار مُضخّمة
أخبار الحرب تصل مضخَّمة الى المغتربات القريبة والبعيدة، والواقع اليومي الذي ألفه اللبنانيون وتعايشوا مع صعوباته ومخاطره يؤرق المغتربين وينغص عليهم حياتهم.
وتقول آمال الصايغ التي تعيش في واشنطن: «نحن نتخيل دائماً الأسوأ حين نقرأ في الصحف ولا سيما التي تصدر هنا مثل واشنطن بوست. فالمقالات التي تتناول لبنان لا تبشر بالخير ولا بنهاية قريبة للحرب الدائرة في فلسطين أو لبنان. كلما قرأتُ خبراً مقلقاً اتصل بأهلي للاطمئنان عليهم. لقد ربينا أولادنا وأحفادنا على حب لبنان وصاروا يعشقونه، لكننا لم نتمكن هذا الصيف من المجيء. خفنا وشعرنا بنوع من الشلل أربكنا وأجبرنا على البقاء بعيداً عن بلدنا وأهلنا. ورغم كل ما نراه عن استمرار الحياة في لبنان وما يقام فيه من حفلات فنية وترفيهية وأعراس كبرى، خشينا من النزول الى لبنان، وربما كانت خشيتنا أكبر بكثير من خشية المقيمين. وما علينا إلا الصلاة ليبقى لبنان وأهله آمنين في هذا الزمن الصعب».
... مغتربون جدد وقدامى، طلبة وسعاة رزق كبار شباب وأطفال يختلفون في الرأي، ينقسمون يتخاصمون، لكنهم يعيشون جميعهم في ظل شجرة وارفة الظلال تمتدّ جذورها في كل الأرض رغم ما يتآكلها من أمراض ومصائب تدعى... لبنان.