ستّ سنوات على بداية «ثورة الياسمين» في سوريا، كأنّها من أزمنة طويلة، لم يعد يجد فيها الموت، غير موتاه، والخراب غير الخراب، والحرائق غير الحرائق، والدماء غير الدماء،... لم تعد من أرضٍ فيها تتحمّل ساكنيها، ولا أجداثها، كأنّما فاضت بمن فيها، حتى السماء. لا شيء يستمر قائماً، أو ساكناً، أو متحركاً، أو راكضاً، أو هارباً، أو مختبئاً. جنون من نوع الأكابوليبسات، والكوابيس، لا تعرف من أين يعصف، ولا من أين يهبّ، ولا الى أين يمضي. سوريا الـ21 مليون نسمة، صارت تفتقد النَّسمة، وحتى الظلال، والأجساد، والأنفاس: أي قبر مديد هذا ينفتح في مدنها، وقراها، وحقولها، وأنهارها، ومدارسها، ومستشفياتها ومنازلها! كيف يتحول كل شيء يحمله الطفل ليحفر حفرته، والمرأة لتستقي دماءها. لا ناس في أماكنهم. اختير لهم الذهاب الى أبعد من المجهول: الى أدغال العالم، وحدوده، وبحاره؛ إنّه الرحيل بلا وجهة. والهروب بلا بوصلة.
لـــم يعد هناك ما يمكن أن نسمّيه سوريا: لا أرضَ لسكّانها، ولا دولة لناسها، ولا جامعَ لأهليها: شظايا صارت، وركاماً وفراغاً، وجدراناً بلا جدران، وبيوتاً بلا بيوت، ومسافات فقدت اتساعها: ما أضيق العيش حين يصير الموت أصغر من يدي طفل، والمصيبة أكبر من العالم، ذهبت سوريا وبقي الأسد! عرينه قصر بلا نوافذ ولا سقوف ولا عرش، ولا مُلك، ولا سلطة، ولا سيادة، ولا إرادة ولا أثر. كيف يمكن أن يصير رئيسٌ مفترَض أصغر من كرسي يقتعده، وسقط كل لحظة منه. ماذا بقي من سوريا، لكن ماذا بقي من «أسدها» وآله، وأحواله...
احترق معها، وترحّل مع كل مترحّل، ومات مع كل طفل، وتدمّر مع كل خراب. ملك بلا مُلك! ويبقى. لكن ماذا يفعل إذا كان كل شيء بات يشبهه: أضغاث ظلال، وبقايا أشباح، وحشرجات، من قوة نزاعها، تطنّ في أذن العالم كلّه.
] التدمير الثلاثي
بعد ست سنوات، دمّر الأسد وحلفاؤه من الفرس - الإيرانيين، وحزبهم العميل، والروس، ما قد يستغرقُ تدميره عشرات السنوات: ضرب مقوّمات الشعب بتهجيره، (5 ملايين في المنفى)، و(6 ملايين في الداخل)، حتى أصبح الشعب «نظرية» افتراضية، مسحوقة تحت آلات الحرب. الشعب السوري هُجّر، وأذِل، يُدفع كالمواشي لترك أرضه.
بلد بلا شعب، كشعب بلا أرض، أو كجسم بلا روح، أو كعين بلا بصر، تقطعت به السبل في جهات العالم. لا شعب إذاً، بلا دولة، ذهبت معه، هنا برجعة وهناك بلا رجعة. إذا كان الشعب غائباً، فبمَ يحكم الحكّام. لا شيء. الدولة غير موجودة: لا جيش وطنياً، ولا برلمان، ولا حكومة ولا سلطة: ذهبت كلها معه: مساحة سوريا 185181كلم2، أُفرغت كشاحنة مليئة بالنفايات والجثث. كل كلم2 بقبر. كل حبّة تراب مبلّلة بالدمع. كل نسمة هواء من دم وسعال وحشرجة ودخان وقنابل، وقصف وغاز وكلور! أف! كيف يتنفّس رئيس بين جوانب قصره إذا كانت كل غرفة مكتظة بالجثث، والعَفَن، وملطّخة بالدماء، ومصدومة بالأيدي المبتورة، والرؤوس المقطوعة، والأيدي المرمية في الزوايا. كيف لبشّار الأسد هذا، أن يتنفس عندما تثقل أنفاسه كالجبال بروائح الموتى وصراخ المعذّبين والجرحى والمعوّقين وصيحات الساقطين عليه. كل جثة سقطت انهارت عليه، فلا عدت تميّز بين الجثة وبينه.
مع هذا فإنّه ما زال يتنفس، ملء رئتَيه، ويتملى وجهه في مرآة لم تعد تراه، من فرط ما تكدس على وجهه من الوحول، والطمي، والقاذورات. ومع هذا ما زال يظنّ أنّ ما يراه في المرآة هو وجهه، وليس «وجه بوتين، أو خامنئي، أو البغدادي» لم يعد عنده ما يقوله، فبمَ ينطق: تصويت غربان يخبط صوته.
كيف يربط كرافاتته في الصباح على عنق باتت من ألوان المعادن، والرصاص؟ مع هذا يربط الكرافات، يتمرأى، يلبس قميصاً، وبدلة، وحذاء... ويمشي، وكأنّ ملابسه باتت وحدها، وخطاه من وقع غيره، وألوانه من سقط المتاع.
] القصر بلا سيِّد
القصر لم يعد لسيّده. ولا الملابس. ولا حتى آلات الحلاقة. ولا تصفيف الشعر: كأنّه يُبرّج جثّته كل صباح، ويُنزّهها في جوانب قصر، استولى عليه الآخرون. ينظر الى خرائط سوريا، ولا يرى سوريا. عال! يراجع عدد سكانها، ويجد أنّها بلا سكان. عال! يتملّى من نافذته ما يدور أبعد منه: لا دولة باقية؛ ولا أهل ولا وطن، ولا سلطة، ولا سيادة: عال سلَّم الأشبار التي تبقّت له لمن حمى «لاوجوده» لمن استبقى له سلطة بلا سلطة؛ لمن استباح حدوده. ينظر حواليه: لا شيء! عال! الحِملُ بات أخف! فإذا لم «يتغيّر النظام، فالشعب تغيّر! الحِمل أخف. وإذا لم يتغيّر الرئيس، فالشعب تغيّر: تبخّر، ولا أثر، إلاَّ في المواجع، وفي الأسف».
هذه لروسيا. عال! «الحِمل أخف». هذا لإيران. هذه لتركيا. هذه للميليشيات الباكستانية والشيشانية.. عال! هذه لـ«داعش».
«هذا أخف! فلمَ لا أريح ضميري: فلا يزعجني أحد بطلب رأيي. يتفاوضون من دون علمي. خي! يقرّرون من دون علمي. خي! يقصفون ما يقصفون من دون أوامري، رائع! يقتسمون الأرض من دون إخباري، رائع!. يأتي الأسطول الروسي الى أرضي ومياهي. أهلاً! يغزو الحرس الثوري وحزب الله بملء حريّتهما. هذا يُثلج قلبي!. لكن من قال انّ ليس لي دور. لا وألف لا! فأنا أغطّي كلّ ما يرتكبون، ويحكمون، ولكن أنا عندي أمري اليوم: وعليَّ مجاراتهم (شرط موافقتهم طبعاً)،«أقصفوا أنتم يا من تبقى حولي بالأسلحة الكيميائية»! وها هم يقصفون!. (ويقولون إني بلا سلطة!)، دمّروا حلب، حمص، حماه، ريف دمشق، سوّوا المباني والمستشفيات بالأرض. ها قد سوّوها. اقتلوا الأطباء. قتلناهم. «هجروهم»، «هجّرناهم»، حاصروا «الإرهابيين»، إقطعوا عنهم المياه (حتى في دمشق) حاضر! آه! ما أجمل حاضر! وسّعوا السجون، قطّعوا الأطراف، إعدموا السجناء في صيدنايا وغيره. «أمرك سيدنا»! اجتثوا الأعداء السوريين حتى ذريّاتهم، وأطفالهم... وحواملهم... عال! هذا الدور الذي لعبته ليس لا متواضعاً ولا صغيراً».
] ما تبقّى للأسد
هذا ما تبقّى للأسد في سوريا: ممارسة الإجرام وتهديم ما تبقّى منها... وتسليم البلاد الى الخارج؛ وإدارة عملية إفلاس البلد: الدولار صار بـ540 ليرة سورية (كان قبل الحرب بـ50 ليرة)، البنى التحتية منهارة، لا خدمات، ولا شوارع. ولا طرقات ولا مياه، ولا كهرباء... ولا اقتصاد. ولا بيع ولا شراء، ولا تجارة، ولا مصانع، ولا غاز، ولا بنزين..
هذه البنى التحتيّة، لا تقل خراباً عن «البنى الفوقيّة»: لا سلطة، لأنّ الأسد لكي يبقى حيث هوَ، عليه بكل بساطة ومنطق أن يفرّط بسلطته؛ ولكي يبقى سيادة الرئيس، فعليه أن يفرّط بسيادة بلده، فالحاكم لكي يكون حاكماً يجب أن يكون محكوماً! لكلّ شيء ثمنه. فمصيره بات في أيدي الروس: إذا ذهبوا ذهب، وما تبقى من حُكمه في أيدي الإيرانيين إذا ذهبوا ذهب! فالكلمة لهم: إذاً، عليه أن يقبل كرئيس سيادي إعلان التحالف الدولي حملةً ضد داعش، عام 2014 من دون إذنه، وأن تقصف إسرائيل بانتظام حدوده ومدنه ومواكب حزب الله من دون أن يعلّق، هذا لأنّ لا روسيا ولا طهران... علّقتا على هذا القصف. فالصمت من ذَهَب!
وها هم يمنّنونه يقول حزب الله وإيران «لولانا لسقطت!». ثم ينبري مسؤول روسي ليعلن «لولانا لسقطت في 6 ساعات!». ثم هناك من يعلّق «إن للروس تأثيراً على الفصائل التي تحارب مع النظام». ذلك أن الجيش السوري الذي كان تعداده 300 ألف قبل الحرب، قُتل منهم 100 ألف في المعارك، وعشرات الألوف إما هربوا، أو هم غير جاهزين للقتال. أكثر: صار رؤساء الميليشيات أمراء حرب، يقتلون، يسرقون، ينهبون، يطاردون المدنيين، يزجّون الناس في السجون... ولا مرجعيّة لهم...
] سيّد الفوضى
إذاً، كل شيء فوضى، كل شيء على نهاياته، على خرابه، ما عدا قصر سيادة الرئيس: نظيف، جميل، أنيق (كصاحبه)، مريح، مضياف للزوار، كل ما فيه ما زال على «الأتيكيت»، لكن كل شيء خارج القصر فوضى. الدولة في حالة فوضى، فصار الرئيس الأنيق سيّد الفوضى. كل شيء مدمّر والرئيس الصامد سيّد التدمير. صارت سوريا كلّها غرفة للتعذيب، والرئيس المهفّف هو الجلاد!
] بين ثورتَي «الأرز» و«الياسمين»
نتذكّر أنّه بعد ست سنوات من اندلاع «ثورة الأرز» تفجّرت «ثورة الياسمين» في درعا. ثورة الأرز رفعت شعار «خروج القوات الأسدية» من لبنان، وثورة الياسمين «لإسقاط النظام البعثي». ثورتان في بلدين ضد نظام واحد، هنا «يحتل» لبنان باسم «منع الحرب الأهلية الطائفية» وهو يشعلها، وهناك يهيمن على بلد تحت شعار «الممانعة» و«المقاومة»، وقبلها «دول الطوق»، ولا ننسى «جبهة الصمود والتصدي»...
والشعارات هنا وهناك، أقنعة للإجرام، والنهب، والفساد، والاستبداد والظلم. عائلة واحدة تتحكّم ببلدين؟ اف!
«ثورة الأرز» طردت الجيش السوري من لبنان بعد 30 عاماً من وصايته، و«ثورة الياسمين»، التي بدأت بعطر الزهور والأنفاس والقامات والمظاهرات السلمية حُوّلت حرباً أهلية - مذهبيّة بفضل بشار الأسد وخامنئي وصولاً الى بوتين.. انطلاق الثورتين متشابه: هناك في درعا مئات الألوف يهتفون بسقوط آل الأسد، وهنا التظاهرة المليونيّة في 14 آذار ترفع المطلب ذاته. هناك تدخلت إسرائيل وأوباما وإيران وروسيا لمنع سقوط الأسد، وعندنا عملت إيران على إفراغ ثورة الأرز من مضامينها، بسلاح حزبها العميل والفلول الأسدية: هنا عندنا انطلقت الثورة من دم الشهيد رفيق الحريري، ودم شهداء 14 آذار، وهناك من تعذيب أطفال درعا وسحب أظافرهم... ومن ثمَّ بقتل المناضل المغني القاشوش بسحب زلعومه... هنا حاول حزب الله تشويه صورة 14 آذار (وحتى الحريري)، واتهامها بالعمالة لإسرائيل وأميركا... وهناك اخترع النظام وحلفاؤه الإرهاب الداعشي، كأداة للتهجير والقتل والتطرف،... هنا تحرّر لبنان من الوصاية السورية ليبقى الاحتلال الإيراني وهناك تهافت المحتلّون لحماية الأسد: أخذوا سوريا مقابل رأسه، بالقطعة، والعقارات، والمناطق، والقواعد العسكرية، والنفوذ... وأفرغوها لقاء بقائه، وهجّروها لقاء كرسيّه الشاغر!
لكن، في الحالين كأنما النتيجة واحدة في بعض وجوهها المشتركة: نهاية رجل اسمه بشار الأسد في سوريا، ونهاية وصاية سوريّة في لبنان. رأسه، اليوم، ما زال محطوطاً على طاولة المفاوضات، بين الأتراك والروس وإسرائيل والفرس... والولايات المتحدة، رأس مقطوع بات يُباع في مزاد «الآثار» أو الأنتيكات، اليوم بسعر وغداً مجاناً!
أعني أنّ الأسد بات من الماضي. اتّحد شبحه وشبح والده... الأول رحل حاكماً... والثاني يبقى بلا حكم.
وفي هذه المناسبة لا بدَّ من القول لا «ثورة الأرز» انتهت فهي باقية في الضمائر والنفوس وإن خذلتها أحزاب، وثورة الياسمين، ككل الثورات الكبرى، تتحمّل بمن بقي منها، الأعراض، والانتكاسات، والتحولات؛ لكن بما أنّها تمثل الشعب... فلا بدّ أن يفوح وكثيراً عطر ياسمينها في الأجيال الراهنة... وفي المستقبل!
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك