للكاتب الممتع والمفيد سمير عطالله تعبير وصف به رئيس مجلس النواب نبيه بري في مقالٍ كتبه في العام 2008. سمّاه "بائع البلسم وحارس الميزان". يبدو نبيه بري الثابت الوحيد في بلدٍ يتغيّر كثيراً، مع تبدّل الأحجام الإقليميّة والتوازنات الداخليّة. كأنّ ما حوله حجارة تقذف بها العواصف من موقع الى آخر، صعوداً وهبوطاً، وفق حركة الريح. أما هو فصخرة ثابتة في مكانها، تلطم بها الريح فتخيب. وكم من ريحٍ خابت.
رئيس مجلس النواب "بائع البلسم"، ولكنّه، في محطات كثيرة، رافع الصوت واليد وقارع الجرس، تحذيراً. وعلى الرغم من موقفه وموقعه الواضحين، والثابتين، في السياسة، يبدو بري في فترة الانقسامات الحادّة وكأنّه ليس مع أحد، بل مع لبنان وخلاصه، وهو العارف أكثر من غيره السبيل الى هذا الخلاص، ولو كثر من يدّعون ذلك على طريقة الديوك الصغيرة التي لها صياحٌ عالٍ وريشٌ قليل.
الساكن في عين التينة، والقابض على مطرقة المجلس منذ ربع قرن، يبقى ابن تبنين. ليس بحرف الشاء التي تسقط، كعلامةٍ خاصّة، في ختام بعض الكلمات التي يقولها، بل بالتعبير عن صوت الناس، وخصوصاً الفقراء منهم و"المشحّرين"، بلغة أهل الجنوب الذي يلوّث نصاعته اليوم بعض حديثي النعمة ممّن غرفوا فساداً من الدولة وبعض إداراتها. والأهمّ أنّ بري لا يحاكي الناس بلغة القطيع، ولا بلغة الثأر والحقد، ولا خصوصاً بلغة المنتصر الباحث عن غلّة. هو شيعيّ أكثر من أيّ شيعيٍّ آخر، ولكنّه صوت اعتدال وحوار وانفتاح، حتى في زمن التجييش المذهبيّ بحثاً عن صوتٍ تفضيليّ، وقد أقبل البلد على فترة الانهماك بالانتخابات، ومن سيكسر رأس الآخر، ومن سيقعد على رأس الآخر.
وكم من مرّةٍ، منذ 2005 الى اليوم، تلا نبيه بري صلاة استسقاء الحوار في فترات الجفاف والجدال الكثير. الجدال اللبناني أسوأ من البيزنطي بكثير. ولا نتيجة. والفكر الضيّق لا ينهض بأوطانٍ. الشعوب تحتاج الى صدورٍ واسعة، وعقول متنوّرة، وقلوبٍ متعالية. وتحتاج الى من يمسك بآذانها، ولكن برفق، ليسمعها ما يجب أن تسمعه لا ما يحلو لها سماعه.
25 سنة لنبيه بري، وسنةٌ أخرى من روزنامة الأيّام اللبنانيّة كان أحد رجالاتها. وهو لا يتغيّر، فلا ينزلق الى خطابٍ سياسيّ يشبه ردح النسوةِ على الشرفات، ولا الى سجالاتٍ هي أقرب الى تعابير الصبية في الحارات. هو يخاصم، ويُخرج الأرانب، وحتى "يركّب الذكر على الذكر"، ولكنّه يفعل ذلك بحنكة تسرق الإعجاب أحياناً حتى من ضحاياه، وبنباهة، وهو اسمٌ على مسمّى. ولو شاء نبيه بري يوماً أن يكتب وينشر مذكراته لكانت، أكثر من أيّ مذكرات أخرى، اختصاراً لربع قرنٍ من عمر لبنان.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك