راودني الكابوس نفسه لأيّام وأشهر على مدى سنوات الحرب اللبنانية. كنت أستيقظ مذعورة لرؤية جثة أبي أو جسد أمي مسجّى ومنتفخ. ولم أشف من الندوب، ولا زلت أتحسسها عميقة في لاوعيي.
لم أستشر طبيباً أو معالجاً كما لم تستهوني العلاجات البديلة أو التأملات.
وفي كل ٢١ آذار كانت تعود تلك الذكريات كلّها ووجه أمي، مشحونة بألم. ذاك الألم الذي يعتصر الأفئدة ويتركك طريحاً عاجزاً.
وأنا أكتب تلك الكلمات، ابني يلعب مع أخيه الأصغر، وأمامي يعود المشهد ٣٠ عاماً الى الوراء وأكثر بقليل، كنت في سنّه يوم "لعنت الدنيا ومن فيها".
ويوم كرهت ذاك العيد، ويوم أمعنت المعلّمات والمدرسة في نكئ الجرح ابتهالاً بعيدها.
"تبّاً لكم ولعيد الأم" كان كلّ ما استطاع فوهي أن يقوله في تلك المدرسة البائسة للراهبات.
بعد ٣٠ عاماً اختلف طعم الألم ولم يزل.
لكنّني اليوم لا أكتب عن عيد الأم، أكتب عن تلك العيون البائسة في شرقنا المخدّر، عن الوجوه السمر التي تطفو هائمة في بلدان تعتصرها العصبيّات.
أغرقتنا الدماء، ولا زلنا متمسّكين بسواطنا، متأهبين للجلد والذبح.
أسأل كم طفل في سوريا والعراق وليبيا، بلا أمٍّ أو أبٍ أو يدٍ أو رجل؟ لا إحصاءات عربيّة طبعاً، فنحن شعوب لا تجيد قراءة الأرقام، أو التاريخ، نحترف فقط تكرار مآسينا.
في لبنان اليوم أمهات قضين حسرةً على مصير أبناء اختفوا في الحرب ولم يعرف مصيرهم بعد. انتظرنهم أكثر من ٣٠ عاماً ولم يصلوا، فاستسلمت قلوبهنّ.
على مواقع التواصل تعمّ الاحتفالات، والصور ووجوه الأمهات، ومشهد واحد يصعقك، طفل عراقي جاثٍ فوق جثّة أمه ينتظر أن تصحو. لا لن يفارقها لساعات، كما لن تفارقه صورتها وذاك المشهد لسنوات بل لحياته.
أمّي لم تمت في الحرب اللبنانية، هزمها مرض جبان، لكن آلاف الأمهات متن في حروبنا البائسة وثوراتنا المجهضة.
قرأت قبل أيام مقابلة مع طبيب أميركي سوري يعمل ضمن منظمة تعنى باللاجئين السوريّين، في مختلف البلدان، قال إنّه يقتضي أن يكون هناك استنباط لمصطلحات نفسيّة جديدة تعبّر عن عمق الصدمات العاطفيّة التي تلقّاها أطفال سوريا، عن عمق الجراح التي يخلّفها الحرمان أو الانسلاخ عن قريب. لا مصطلحات تعبّر عن حجم الصدمة أو "التروما" التي اختبروها من رعب الموت تحت أزيز الرصاص أو القنابل، أو حتى رحلات الموت والتهجير، ناهيك عن مشاهد الذبح والحرق والاعدامات التي أجبروا على مشاهدتها!
لربما لم يكن الاستنتاج يحتاج لطبيبٍ، أقلّه بالنسبة إلي، فالأيّام القادمة كفيلة بأن ترينا آلام حروبنا التافهة.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك