انتقمت أصالة من رجلٍ خذلها، وملأ قلبها جراحاً، واحترف غدرها وانسحب فجأةً من حياتها بخبثٍ "عميق" ومن دون إعطاء أيّة إشارة واحدة لوداعٍ مؤبّد. لكن، أصالة لم تنهَرْ، ولم تَظهَر بصورة المرأة المغدورة ولا اليائسة، أقلّه علناً. إنّما أوصلت له رسالة فيها الكثير من القوّة والصلابة وعزّة النفس والأنوثة الرقيقة في آن... فكانت أصالة لسان حال كلّ امرأة خيّب العشق ظنّها، فروَتْ "قصّتها" بصوَر شعريّة، بنغمات موسيقيّة وبحنجرة تبعث في النفس فرحاً، وامتناناً، وحزناً، وشجناً، وألماً في آن.
إنّها وبكلّ بساطة قصّة أغنية "خانات الذكريات" التي شكلّت مساحة مرهفة من ألبوم أصالة الأخير "60 دقيقة حياة". وهي من أجمل أغنيات الألبوم لا بل من أجمل ما غنَّتْ صاحبة الإحساس العالي.
حينما نستمع إلى الأغنية ندرك أنّ أصالة رفضت تماماً، وبكلّ الأشكال، أن تكون أسيرة استبداد ذاك الرجل وأن تتقمّصها شخصيّةُ الضحيّة التي نحتها لها بخيانته وبانسحابه من حياتها. وأبَتْ أن تخطف الجراحُ والذكريات المؤلمة والأحداث التْراجيديّة منها ما بقيَ لها من متنفَّس لحريّتها.
في "رواية" أصالة انتفاضةٌ لنفسها نجح ملحّن الأغنية مصطفى العسال في إظهارها من خلال اللّحن وتبعاً للتراكم الواضح في النغمة الموسيقيّة الذي ظهر في القسم الأوّل من الغناء الحرّ (أو الموّال الحرّ أي بدون إيقاع)، في المقدّمة، على شكل نوتات هادئة أظهرت أنّها غير آبهة ومتمسّكة بحريّتها. ومن ثمّ أخذت تتصاعد "حدّة" النوتات في وسط الموّال عندما بدأت تصعد بالسُّلَّم الموسيقيّ شيئاً فشيئاً لتبلغ تقريباً، أعلى ما يمكنها الوصول إليه من نوتات في صوتها في الجزء الأخير من الموّال. وهنا برز عدم تخلّيها عن عنفوان ما وعدم الاستغناء عن كرامتها وأبدى ذروة معيّنة وأصدق ما يكون من إحساس.
أمّا كاتب الأغنية نور الدين محمد فاستطاع أن يقدّم أصالة بصورة جديدة. فكتب شعراً غنائيّاً مميّزاً لا يمكنه إلاّ أن يترسّخ في ذاكرة كلّ مَنْ يتذوّق شعراً وعباراتٍ لا تمرّ مرور الكرام. في الوقت عينه، لم يتضمّن الأسلوب الذي لجأ إليه الشاعر "تفلسفاً" ولا زخرفةً، إنّما كانت لغته بسيطة وقريبة من الأُذن والقلب معاً. وهذا النجاح الذي حقّقته أغنية "خانات الذكريات" لم يكن ليكون نجاحاً كبيراً، من حيث مستوى المضمون والجماهيريّة معاً، إنْ لم يُتوَّج بلحن رائع وبتوزيع موسيقيّ جميل. فكانت آلة الكلارينت، وهي آلة موسيقيّة من عائلة آلات النفخ، الآلة الرائدة في التوزيع والتي كان لها فضل كبير في إيصال إحساس مميّز في اللحن ولكن بروح عربيّة - تركيّة أقرب منها إلى الكلاسيكيّة، علماً أنّها آلة غربيّة. إذ أنّ الموزّع محمد العشي اعتمد عليها بنحو كبير ووضعها في "واجهة" عمله.
وفي هذه السطور أجمل ما ورد في الأغنية من كلام باللهجة المصريّة: "يلاّ عادي مُش حِكاية.. يعني مش طالبة دراما.. مش هَتِفْرِق شيء معايا.. حتّى مُش هَتْسيب علامة.. أمّا أعراض انسحابك من حياتي مش قضيّة.. مش حَلومَكْ.. مش حَعِيش جوّا شخصيّة الضحيّة.. يلاّ عادي.. إنتَ حاجة من الحاجات إللي في حياتي كتيرة.. لو بِتَرتيب الخانات إنتَ في الخانة الأخيرة.. إنتَ جاهل في المشاعر والكلام ويّاك خُسارة.. في امتحان الغدر قادر تبقى أوّل وبْجَدارة...".
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك