فور إعلان فوزه في الاستفتاء على حصر كل السلطات في يده توجه رجب طيب أردوغان إلى أضرحة مسؤولين سابقين مهّدوا لتوليه السلطة، وكانوا يحلمون مثله بالعودة إلى أيام السلطنة.
وزار أضرحة السلطانين محمد الفاتح وسليم الأول، و "الصحابي" أبو أيوب الأنصاري، ورؤساء الوزراء السابقين: عدنان مندريس، ونجم الدين أربكان، وتورغوت أوزال. السلطانان رمز لتأسيس العثمانية، والآخرون، خصوصاً أربكان، أسسوا حركة الإسلام السياسي في تركيا، ونشروا المدارس الدينية في عموم البلاد، أبلغ إليهم فوز مشروعهم وانتصاره على العلمانية وعلى الجيش الذي أنهى حكم السلاطين وأعدم مندريس وأطاح أربكان "حفاظاً على جمهورية أتاتورك".
زيارة الأضرحة، حيث استُقبل أردوغان بحفاوة، جزء من عادات الشعب التركي حتى في أيام العلمانية. لكن الرئيس يستخدمها للتأثير في المتدينين الذين يؤمنون بقوتها وقداستها، وللقول إن سياساته لا تختلف عن سياسة سليم الأول أو محمد الفاتح، وفي ذلك ما يثير الخيال الشعبي ويوهم "العوام" بأنهم أصحاب السلطة وبأن ممثلهم يحكم باسمهم.
و"العوام"، على ما يقول عبد الرحمن الكواكبي الذي عاصر الاستبداد العثماني وكان ضحيته، "هم قوَّة المستبد وقوته، بهم عليهم يصول ويطول، يأسرهم فيتهللون لشوكته، ويغصب أموالهم فيحمدونه على إبقائه حياتهم، ويهينهم فيثنون على رفعته، ويغري بعضهم على بعض فيفتخرون بسياسته، وإذا أسرف في أموالهم يقولون كريماً، وإذا قتل منهم ولم يمثِل يعتبرونه رحيماً، ويسوقهم إلى خطر الموت فيطيعونه حذر التوبيخ، وإن نقم عليه منهم بعض الأباة قاتلهم كأنهم بغاة" (طبائع الاستبداد).
كل ذلك ليس مهماً عند "العوام"، وهم نصف الشعب التركي، على ما أظهره الاستفتاء. المهم لديهم العودة إلى ماض لم يعيشوه ولا يعرفون عنه شيئاً سوى ما توارثوه عن آبائهم من حكايات، وما تعلموه في المدارس عن أبي العثمانيين سليم الأول، وأمجاد محمد الفاتح الذي قهر القسطنطينية (إسطنبول اليوم) وغلب الروم وهجّرهم إلى أوروبا. أما الاستبداد بهم فمغفور، وهو ثمن بسيط لتلك الأمجاد التي أبعدتهم وتبعدهم عن أوروبا الكافرة.
"ننطلق في طريق جديد، بموجب قرار الشعب التركي"، قال رئيس الوزراء بن علي يلدريم. الطريق الجديد يسمح لأردوغان بإلغاء منصب رئاسة الحكومة وتعيين الوزراء وإقالتهم، وتسمية كبار القضاة، والإشراف على قوى الأمن، وفرض حال الطوارئ لمواجهة أي "انتفاضة ضد الوطن أو أعمال عنف تهدد الأمة"، وتسمح له بتجاوز البرلمان بمراسيم رئاسية، ولا تمنعه من أن يكون رئيساً لحزب، بعدما كان ملزماً الحياد.
هذه بعض صلاحيات أردوغان التي نص عليها التعديل الدستوري، بناء على الاستفتاء. وهي لا تقل عن صلاحيات الجيش عندما كان "يحمي العلمانية" بانقلابات أطاحت رؤساء حكومات وفرضت حالات طوارئ لمواجهة اليساريين الذين ما زالوا هدفاً للعهد الجديد. لكن الرئيس يختلف عن الجيش في أنه أخرج تركيا من "عزلتها" عن محيطها، إذ شارك في إشعال الحروب في سوريا والعراق، وفي ضرب ليبيا، وما زال يهدّد دمشق وبغداد بالمزيد من التدخل. ويهدّد أوروبا بإرسال آلاف النازحين إليها بعدما حولهم إلى ورقة للمساومة والابتزاز.
مع التعديلات الدستورية يعود قمع الإعلام إلى تركيا. قمع بدأت تباشيره، قبل ذلك، باستيلاء السلطات على الجرائد وتعيين الحزب الحاكم صحافيين من أنصاره لإدارة الصحف المعارضة، وإبعاد الصحافيين وسجن بعضهم. وهكذا يعود الاستبداد إلى سابق عهوده المظلمة، ويصبح قمع الأقليات مشروعاً قانونياً، ما يجبرها على العودة إلى قبائلها للاحتماء بها، وتنتهي الحياة المدنية بانتهاء الأحزاب، وتصبح كل قبيلة أو طائفة في مواجهة الحاكم، أي تصبح الحرب الأهلية مشروعة. وبوادرها ليست بعيدة، فالأكراد يخوضون حربهم منذ الثمانينات، والتصالح معهم انتهى بسجن نوابهم، ووصمهم بالإرهاب. أما العلويون وغيرهم فليس أمامهم سوى الانزواء في الوقت الراهن، وقد لا يطول انزواؤهم. والعلمانيون أصبحوا في نظر السلطة من أتباع عبدالله غولن المتهم بالإرهاب.
واقع الأمر أن ما يحدث في تركيا لا بد من أن ينعكس على محيطها. وإذا كان أردوغان يستعيد الماضي سلماً، ففي المحيط من يستعيده بالدم.
مستقبلنا في ماضينا المجيد والاستبداد طريقنا إليه.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك