العالم كله اليوم في مهبّ المتقلّبات والتغيرات المتسارعة المتواترة، المتهافتة؛ يزدحم بظواهر، وأحوال، إمّا مُستعادة من الماضي، أو من عناوين الحاضر، أو من تهيؤات المستقبل. فالتاريخ مفصوم في سيرورته وصيرورته. تنفر فكرة ثم تنطفئ لتشتعل أخرى. كأنّ الأفكار باتت تعيش عمر ولادتها. إنه التسارع والتجاوز والتسابق. كلّ شيء يحلّ محلّ كلّ شيء. كأنما، بأجزاء، مواربة، أو «بازل» متلاصقة، أو متزاحمة. فمنذ نظريتي «نهاية التاريخ»، و«صدام الحضارات»، و«عصر الأديان»، تداخلت الأمور، والتبست على المحلّلين، والمفكّرين، واختلفت السجالات مع اختلاف الظواهر والمستجدات. بعضهم وصف الأوضاع بـ«صدام حضارات» كالفيلسوف الفرنسي ميشال أونفري في كتابه الأخير «انحطاط»، لينبري آخرون ويعلنوا «أنها حروب دينية»، أو «حرب عالمية ثالثة»، أو «حرب أهلية معولمة» بمستتبعاتها الأبوكاليبسية والكارثية، ونهاية الإنسان، والدول، وزوال الثوابت، وأفول الغرب، وتمزّق الشرق، وغروب «الثورات» العقلانيّة، والإيديولوجيّة، والاجتماعية واستنفاد الأنظمة نفسها، وسقوط النخب... وكلّها تتواجه في سجالات وفي مؤلفات وفي مواقف وآراء.
لكن أين الخيط الأسود من الأبيض، أهو ممحو أم مقطوع، وأين التواصل أمبتور، أم مسدود؟
جُزُر من المقاربات تتضارب، على غير هدى ولقاء، وتتفرّق على غير تواصل بحيث لم يعد من مكان للتساؤل العقلاني، أو للسياسة بمنطقها التسوَوي، أو للتشريح الدقيق والمقاربات الشاملة. بين «صدام حضارات» و«حروب أهلية مُعَولَمة»!
ونظنّ أنّ ما يمكن أن يجمع كل هذه الظواهر النثار هو صعود الشعبويّة التي تمسّ كل تفصيل من تفاصيل تلك التحاليل والمواقف، والآراء، ولكن هل الشعبوية وليدة ساعتها، أم صنيعة حاضرها؟
لكن صعود «الشعبوية» هل يترجم «صدمة حضارات» أَم تكريس «نهاية التاريخ» أَم عودته، أَم «الحروب الأهلية المعولمة». (أوَليس كلّ شيء بات معولماً) هذا ما يحاول المفكّر الهندي بنكاج ميشرا أن يتناوله ومن طرق مختلفة في كتابه الجديد «عصر الغضب» (عن دار بنغوان). ومن يطّلع على أفكار هذا المفكّر يكتشف أنّه جاء من أمكنة أخرى. فهو يردّ على ميشال أونفري وفكرة «صدام الحضارات» و«انزلاقات العصر وهاوياته» ليعلن أنّ اعتبار بعضهم أن ما يجري حالياً هو صدام حضارات كلام «مؤسف»، لأنّ ذلك يتأسس على الاختلافات الثقافية والعرقية، وأنّ «التنازع بينها يؤدي الى نتاجات ليست ما نراه اليوم. فلا هناك من صراع حقيقي بين الحضارتين الغربية والشرقية، ولا بين المسيحية والإسلام، ولا حتى بين مكوّنات الشعوب... وإن تعارضت».
من هنا، إن ظهور ترامب، لوبركيست، الشعبوية في أوروبا، وبوتين، والجهاديين، والإرهاب، والقوميات وصولاً الى «فرنسا أولاً» أو أميركا أولاً... هي أعراض لا تفسّر صدمة حضارات، لكنها مؤشّر الى «حرب أهلية معولمة» تتواجه فيها نُخبٌ كوسموبوليتيّة وليبراليّة، مع جماهير مكبوتة ومُحبطة من عدم «رؤية ثمار التقدم كما صُوِّرت لها، ولا وعود «العولمة» الفردوسيّة، ولا مسارات الأحزاب، ولا الأفكار، ولا الثوابت... كلّ ذلك قد أيأسها، وأشعل فيها نيران «الغضب».
استعادة المقولات
المفكّر الهندي، من موقعه لا يختلف كثيراً في جوانب من تحليله عن أفكار العديدين، حول أفكار التنوير، والثورات، والنُخب. وقد سبق أن قيل إن معطيات التنوير تعاني خللاً تاريخياً في طبيعتها وبنياتها ومساراتها، خصوصاً في محاولتها تصنيع أو تشكيل أفراد «أحرار» «بقوا تحت سقوف الخضوع، والمحاكاة، ما أدى الى انقطاع النخب عن الشعب، وإقامتها في نرجسيّاتها وأبراجها العاجيّة. بمعنى آخر إنها تحمل كلّ «فيروسات» المجتمع الحديث»، وهذا ما أكده المفكر والروائي الهندوسي. يقول المفكر الروسي ألكسند هيرز «إن الحضارة الغربية الحديثة هي حضارة أقليّة». وهذا يعني أنها حضارة طبقة، انطبقت فوق طبقات الشعب، من دون اختراقها». «فلهذه النخب امتيازاتها وحظوظها وحصصها» من «وليمة الحياة»، واستفرادها بعزلتها، وفوقيّتها، ومكاسبها، بينما تبدو الجماهير والطبقات المتوسطة بعيداً في همومها وتطلعاتها وحاجاتها وأحلامها.
كأنها حرب «طبقية»! بين الأكثرية العظمى والنخب الفكرية والسياسية. لكن هل يؤدي ذلك الى حرب أهلية ومعولمة، بين أقلية مختزلة وبين جماهير واسعة؟ أيذكرنا ذلك بالثورة الفرنسية أو البولشفية، أو الماوية...؟ ربما! ولكن بحسب منظور المفكّر الهندي أنّ هذه الثورات الشعبية اختزلتها النخب ونبذت الشعوب، وفرضت عليها توتاليتاريّة عمّقتها العولمة بتوجّهاتها. لكن هناك «توتاليتارية» «النخب»، وأخرى الشعوب، (بفضل الشعبويّة). أيلتبس المفهومان: الشعبي والشعبوي في مسارات متشابهة، من خلال الظروف القائمة، ودور وسائط الإعلام؟.
حرب نخب
كيف يمكن أن تكون «حرباً أهلية» بين نخب ليبراليّة، وبين شعب تملكه الغضب، وما زال رازحاً تحت أواليات الغيوب، والعنصرية، والأثنية؟
صحيح أنّ الشعب ناقم على الليبراليّة المتوحّشة، وعلى العولمة وتفاوت المساواة الحاد... وتباطؤ الاقتصاد، (وهي تذكّرنا بما حدث في القرن التاسع عشر وما أدّت إليه من أمراض فوضوية، وبمجتمعيّة قوميّة، وعنف). كلّ هذا يعود، بوجوه أخرى، فالطبقات الوسطى التي دمّرتها الرأسمالية المعولمة في أوروبا وأميركا... وسواهما، وخيّبت آمالها، والتبست عليها الأمور والمفاهيم والأسباب، «تبحث عن مخارج ولا تجدها»، وترى نفسها محاصرة بزمن لا يسمع ولا يرى ولا يحس. هذه الشرائح التي وعدها عصر العولمة «بمواطنيّة عالمية» تشبه زوال الطبقات في الفكر الشيوعي، وكوسموبوليتيّة شاملة، اكتشفت أنّه منحها فقط للنخب، لعبة الخداع والتزييف والتسويف هذه صفعت هؤلاء. فالناس شعرت بالنبذان والتهميش، والظلم، وحتى الاحتقار والدونيّة. لكن أيكون كلّ ذلك جديداً؟
ويردّ المفكّر الهندي على تساؤلات الحروب الأهلية بين الفئات «المتشابهة»، فيرى «أنّ سحر الشعب هو اليوم أقوى (في أعراض الغضب)، من جديد. فالناس باتوا يبحثون عن تقدير ذاتي ليس بواسطة «النخب» والثورات والعولمة والرأسمالية والليبرالية، بل «عبر جماعات محددة بالإثنية، الدين والعِرق، أو الثقافة». في وقت لا زال النخبويون السياسيون مهووسين بفكرة إعادة خلق وحدة إيديولوجيّة أو ثقافية للشعب ونبذ كل الذين لا ينتمون إليها»! عودة الى اللعبة القديمة. عودة الى الانقسام العمودي بين الشعب والنخب السياسية والعسكرية والثقافية.
الرؤيتان الناقصتان
لكن ما يمكن ملاحظته في رؤيتي الفيلسوفَين ميشال أونفري، وبانكاج ميشرا، كأنهما محددان في جغرافيات محصورة، وبأسباب ودوافع مقتبسة من ظروفهما! ومن الصعب الخلط بين ما يجري في مناطق الأزمات والحروب في الشرق الأوسط ابتداءً بما ترتكبه إسرائيل وأدى الى «ثورة الحجارة»، أو ما ارتكبته الأنظمة العربية وأنتج ردود فعل ثوريّة (ليس مجرّد غضب) تمثّلت ببدايات الربيع العربي (الذي نجح في تونس): فالمسألة هنا، يمكن أن تمسّ الغرب ونخبه السياسية على امتداد أكثر من ثلاثة أرباع القرن، ودعمهم للمحتل الإسرائيلي، ليخيّبوا «آمال» شعوب المنطقة، فالحرب في سوريا والعراق واليمن، ليست لا صراع حضارات، ولا أهليّة. إنها على عكس ذلك حرب «تحريريّة» انخرطت فيها النخب الثقافية والشعوب، بمحاولة إسقاط هذه الأنظمة التي لطالما دعمتها وحَمَتْها الولايات المتحدة، وأوروبا، وصولاً الى روسيا. وهي ليست «حرباً» دينية - أو حضارية، بين «داعش» وتركيا، أو بين «داعش» نفسه والغرب... فكيف تكون دينية وأكثرية المتحاربين ينتمون الى «ديانة» توحيديّة واحدة؟ سواء السنّة منها أو الشيعة؛ فهذه الأخيرة جزء من الإسلام (وإن بخلفيّة فارسية)، ولا يمكن أن تشكّل «لا حضارياً» ولا دينياً، ما يسمى حروباً بينها، بل مجرد صراعات سياسية.
وعلى هذا الأساس يمكن الردّ على «صدام الحضارات» الذي يرى فيه أونفري وسواه، أنّه سمة ما يجري: فهل هناك حضارة غربية «صافية»، أم شرقية صافية. وهل هناك ديانات «نقية» من التأثيرات الأخرى؟... فالحضارة العربية والإسلامية الحديثة (القديمة)، منفتحة على كل ما أنتجته الحضارات العالمية، وهي جزء من إنجازاتها، وتاريخها. فمن الصعب فصمها، إلّا بأدوات خارجية، كالاستعمار والمطامح، والرغبات الإقصائية، والانعزالية، وعندها، ينفي الغرب نفسه، كما يحصل اليوم مع الشعبويين في فرنسا، وبريطانيا، وروسيا (انتزع بوتين القرم من أوكرانيا)، وأميركا. فهؤلاء النخب، في تنكّرهم لمحطاتهم التنويريّة، اختاروا تلك الطبقات المقهورة المنبوذة، الموعودة بالفراديس المستحيلة، والمهاجرين، والأقليات، والإسلام، والأفارقة، والسود، ليكونوا «ضحايا» عولمتهم، ونخبهم، وأخطائهم، وفسادهم. وهذا ما يشير إليه المفكر الهندي لكن ليجمع تعسفياً كل ذلك ويصنع منه «حروباً أهلية معولمة»، لكن أين؟ حتى هذه الجماهير التي تدفع ثمن نبذها وتهميشها وإفقارها، هي التي، ومن خلال شعبويّة الأنظمة وأصفيائها منقسمون، ومتضاربون، وإذا كانوا اختاروا ملعباً لغضبهم، (عنوان كتاب المؤلف الهندي «عصر الغضب»)، وفجّروا فيه احتقانهم ومكبوتاتهم، فقد وقعوا في براثن الشعبويين والنخب أنفسهم: من نُخب وول ستريت، والعولمة، والرأسمالية، والليبرالية، الى أحضان أهل المال، والشركات، والصناعات، وأهل السياسات الاقتصادية الاستهلاكية، بأفكارها، وهم جزء من هذه الشعبوية. وعلى هذا الأساس من الصعب اعتبار ما يجري، حروباً أهلية، فإذا كان الأمر كذلك، فستكون بين الضحايا، تستثمرها النخب، لتكرس سلطانها، ومصالحها: أتكون حرباً أهلية في أميركا بين جمهور الديموقراطيين والجمهوريين؟ أو بين مؤيدي البركيست ومعارضيه؟ أو بين اليمين المتطرف واليمين المعتدل، أو بين اليسار الاشتراكي واليسار المتطرف في فرنسا؟ وحتى الآن فالطبقات المتوسطة والشعبية، متورطة في حروب النخب، وتختار أحياناً كثيرة من هم أسباب خرابها: من ترامب، الى أوربان، الى تريزا ماي، الى لوبان، وفيون... ومعظم هؤلاء ينحازون الى النخب الدكتاتورية، والسفاحين كبوتين وبشار الأسد، وخامنئي...
من ينتج الحروب؟
فالحروب الأهلية عادة ما تُنتج انقسامات دموية، والمنتصرون فيها، هم النخب سواء كانوا من هذه الجهة أو تلك.
وإذا كان الفيلسوف الفرنسي ميشال أونفري رفع شعاراً متجاوزاً هو «صدام الحضارات»، والمفكر الهندي رفع شعار «حروب أهلية معولمة»، فالإثنان، انطلقا من خلفيات تاريخية وجغرافية، وإيديولوجية، منقوصة. فقد «فكّرا» الغرب والشرق كمساحتين منفصلتين، أو مستقلّتين بحضارتَيهما عن بعضهما وقد وقّع كلاهما بالاستنسابية المرجعية، بمصادرها العمومية، وظواهرها الخارجية، من دون أن يتساءلا: صدام حضارات بين مَن ومَن، ولماذا لا يكون صداماً حضارياً ضمن الحضارة الواحدة، وحرب أهلية معولمة بين مَن ومَن، إلا إذا أصبحت الحروب الأهلية وتسمياتها بين الضحايا، الضحايا والضحايا، بين أكثريات العالم وأكثرياته، بين أقلّياته وأقلّياته، بين معولميه ومعولميه... بين شعبوييه وشعبوييه.
نظن أن المفكرين قفزا في تعاطيهما مع الوقائع، وأهملا الى حدّ بعيد، أنّ كل الحروب والصدامات، تكمن وراءها والى حد كبير السياسة، أو تنطلق منها، أو تصبّ فيها... وأن الطائفية والحروب الأهلية، وصراع الحضارات، هي في النهاية من «صنائع» النخب!
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك