مرة أخرى، ودائماً، يصحّ تكرار البديهة القائلة بأن ألف ساعة حوار ولا لحظة انفجار أو مواجهة في الشارع.. وبأن الركّ الممنهج على هذا المعطى في زمن الخلافات الأبعد من السياسة وخياراتها وترفها، لا يصيب أحداً في نهاية المطاف ولا في بدايته، بأي أضرار يُعتدّ بها، بل العكس تماماً.
ولا تنفع الطروحات الاستنفارية في واقع مستنفر في أساسه. وفي حالة، لا يشك رصين عقله في رأسه، بأن الاصطفافات فيها مكتملة وناجزة ولا ينقصها سوى البصم عليها! والمعنى، أن لبنان اليوم واقع بين منزلتين: لا مواجهة دموية تستدعي دق النفير ونتف الشعر وقرع طبول النزال والعراك، ولا حالة سلمية طبيعية تامة تحكمها سلطة مكتملة ودستور محترم بدقّة، وقوانين سارية المفعول، ورعية تطل على الدولة من شرفة واحدة وإن كانت بمقاعد طائفية ومذهبية وحزبية كثيرة ومتنوعة ومتعددة!
الحالة الوسطية هذه تنفي التطرفين السالفين، وهي بلغة العصر، نعمة لا شك فيها وفي فضائلها. وحنوّ قدري يؤاخي حنوّ الأهل على ولدهم المراهق والأهوج! مثلما هي توليفة ساحرة في عالم لا منطق فيه، وهذه تلحظ أن المتخانقين والمختلفين والمتقاتلين بالمشاريع السياسية والنار سواء بسواء، وعلى مساحة تمتد من أوكرانيا إلى سوريا، ارتأوا أن لا يتخانقوا ولا يتقاتلوا على مساحة محددة اسمها لبنان.. وهذه أنتجت مظلة إقليمية دولية، تقاطعت المصالح عند إبقائها مفلوشة على وسعها فوق بساط أخضر رطب وسط غابة ولعانة ومحترقة.. ومن دون أن تلغي تلك الرطوبة حرارة التناقضات الأصلية المتأتية في أساسها، وبالاستناد إلى أحكام الضمير الحي والقراءات المعلنة والمضمرة، من اعتبار صاحب السلطة في إيران أن الفرصة سانحة أمامه لإعادة إحياء أمجاد امبراطورية بائدة، ولتصفية حسابات (مذهبية) معلقة من التاريخ! ولتأكيد عَظَمة قومية سالفة، في زمن الحداثة والوصول إلى المريخ!
وكي لا يضيع القياس ويضرب الخلل أحكام توزيع المسؤوليات بالعدل والقسطاس وميزان الحق، يُفترض الإقرار السعيد بأن «قرار» إبقاء الوضع اللبناني خارج مسار النار الذي تعتمده السلطة في إيران لتحقيق طموحاتها، آت أولاً وتحديداً من تلك السلطة في إيران، باعتبار أن حلفاءها هم وحدهم القادرون على إشعال النار في الفتنة الباردة، وباعتبار أنهم منشغلون بحرب إنقاذ بشار الأسد من الفناء! ومن تيقّنهم في الوقت نفسه بأن اليقينيات الانتصارية ليست كذلك في بلد صعب ويشبه الأحجية مثل لبنان!
تحت ذلك السقف الواقعي يمكن الاقتراب مجدداً من معطى الحوار، حتى لو كانت سوابقه عقيمة. وحتى لو ظلّت حيطان المواقف الأحادية والأنانية النافرة والفظّة قائمة من جهة حلفاء إيران. وحتى ولو جرى تقليص برنامج الخلافات وحصره ببعض الأولويات. وحتى لو تم التغاضي العابر عن العلّة في أصلها وفصلها المتمثلة بالسلاح والمشروع (الداخلي) الذي يحمله ذلك السلاح.
الدعوة إلى الحوار تحتمل الظن الحسن بإمكانية البناء على بعض المشتركات. وتخفيف حدة الأزمات الطاحنة التي يعاني منها كل اللبنانيين. وإعادة تصحيح الخلل الخطير المتأتي عن الفراغ الرئاسي وتعطيل السلطتين التنفيذية والتشريعية.
.. وذلك في زمن الضنى، نعمة موازية للمظلة الحانية فوق البساط الرطب! وترجمة لا بأس بها، للمعطى القائل بأن حواراً سيئاً أفضل من حرب جيدة، وبكل المقاييس! عدا عن أنه صعب الافتراض مسبقاً، بأن ذلك الحوار سيكون سيئاً حُكماً!... والله أعلم.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك