لو قُدِّر للزمن أن يروي عن بشير الجميّل لتنهد بين رواية وأخرى، لفرغ حبرُه على أوراق تاريخ رجل إستثنائي، لزها زهوا غير عادي حتى الفرح العظيم، حتى البكاء.
إبن الصخرة في بكفيا، قدّ من مقلع الرجولة والبطولة والعنفوان، ويكفيه عزا ومجدا أنه صناعة لبنانية وحجر الزاوية في بناء الوطن.
كان بشير الجميل في الخامسة عشرة من عمره عندما انتسب إلى حزب الكتائب اللبنانية، وكان هاجس واحد يطارد الشاب الطموح هو استرداد لبنان سيادته على كامل أراضيه، فانطلق في مسيرة سياسية لامعة، عُرف بعدم مساومته على المبادئ وبسقف خطاباته المرتفع وبقربه من القواعد الشعبية...
لبنان أولا
في الاول من تموز 1978 خطف السوريون بشير الجميل من ساحة ساسين، هو الذي حاول مرارا إقناع الدولة بعقم الإتكال على السوري لحلّ المسائل اللبنانية، غامزا من أطماع المحتلّ التاريخية وتدخله السافر في الشؤون الداخلية... احتجزوه لفترة قصيرة، يومها تفجر الوضع، وبدأت الحرب وبعد مئة يوم نجحت "المقاومة اللبنانية" بإخراج السوري من الأشرفية، فصمم بشير على أن تكون هذه المنطقة مثالا مصغرا للبنان، أي ألا تنتهي فقط عند حدود المنطقة الشرقية بل تتعداها لتشمل الـ 10452 كلم2 شعاره الجديد بعد "لبنان أولا".
نحن قديسو هذا الشرق وشياطينه
في 23 آب 1982 انتخب بشير رئيسا للجمهورية اللبنانية، وفي آخر حديث له قبل استشهاده قال: "نحن ثابتون في لبنان والشرق، غيرنا يأتي حينا ويذهب حينا آخر. صحيح أن امتداد وجودنا ليس مستقرا جغرافيا، لكن وجودنا في حد ذاته دائم الاستقرار. نحن قديسو هذا الشرق وشياطينه، نحن صليبه وحربته، نحن نوره وناره، قادرون على احراقه ان احرقوا اصابعنا، وقادرون على انارته ان تركونا على حريتنا. فحذار من أي حل لقضية لبنان وأزمة المنطقة لا يأخذ بعين الاعتبار ثواب تاريخ المنطقة وافرازات حرب لبنان".
خافوه فقتلوه
"نحن لا نتدخل في شؤون أحد، بينما غيرنا يتدخل في شؤوننا" صرخ بشير الجميل ذات مرّة، لكن أحدا لم يفهم يومها أن صرخته هذه كانت تعني أن الحل الوحيد لمنع التدخل الخارجي هو دعم المؤسسات العسكرية فدعا الى تقوية الجيش اللبناني قائلا: "بالنسبة الى الجيش ما بقى بيجوز يكون مكسر عصا. الجيش بحاجة لمعنويات. بحاجة لسلاح. جيشنا بحاجة لأوامر وهو مستعد للتنفيذ. لازم يصير عنّا 150 ألف جندي بكل المعدات المطلوبة. ما قادرين بقى ننطر الخارج حتى يساعدنا".
واضاف: "نامل يوماً ما أن تندمج كل التنظيمات اللبنانية المسلحة وتنصهر بالجيش فيصبح هو القوة الشرعية المسلحة الوحيدة على أرض لبنان".
رئيس لبناني لا سوري ولا أميركي ولا حتى فاتيكاني
وعن رئاسة الجمهورية ومواصفات المرشح لها قال بشير: "نريد رئيسا ينقل لبنان من حالة التعايش مع الأزمة ومشاريع الحلول، الى حال الخروج من الأزمة وفرض الحلول". اذا وافقت اميركا وسوريا على رئيس للجمهورية لتمرير مصالحهم في البلاد وهو غير مقبول لبنانيّا "ما بيكون" اذا الفاتيكان أراد رئيسا ونحن لا نريده و"ما بيناسبنا" "ينتخبوا بابا عندن"، نريد ان يكون رئيسنا لبنانيا قبل ان يكون سوريا، أميركيا أو حتى فاتيكانيا...
خطب بشير الجميل كأنها ألقيت البارحة، اذ ان الظروف والسياسات والتحالفات و"الزواريب" لم تتغير... اليوم وفي ذكرى استشهاده يطل الرئيس الشهيد مجددا محذرا من التعطيل الرئاسي، محملا المعطلين مسؤولية ما قد ينتج عن الفراغ الرئاسي.
فحبذا لو تتعظ القيادات السياسية من خطب رجل اهتز التاريخ وبكى دمعةً ساخنةً عند استشهاده... فخسر الوطن المكسور المنهك عريساً كان تماماً كالصقور... يومها خسر لبنان بعضاً من مجده.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك