نعيش في هذا المشرق وفي عالم الاقوياء، حالة من سقوط القيم، ولو مغطاة بعناوين فضفاضة كمثل الديموقراطية وحرية التعبير وما اليها، علماً اننا نعرف عن قرب ان اشياء ثلاثة تحكم علاقاتنا بالآخر، اولها مراقبة حركته مباشرةً او عبر وسائل الاعلام المرئية خاصةً، اي التعاطي معه بطريقة سلبية غير متفاعلة بالمعنى العملي، وثانيها عدم الاكتراث لمصيره كانسان اذا لم يكن ما يتعرّض له يهدد في الوقت ذاته مصيرنا، وثالثها ان نكتفي بالبيانات الاستنكارية المتوقفة عند حدود اللياقات والادبيات الخشبية امام موت الآخر او تشوهه او تعرّضه للاضطهاد والاستبداد.
تـتـرنّح القيم الدينية والانسانية بقوة امام غلبة المصالح عليها وبالاخص في العالم الحرّ المضغوط بالاعمال والمضغوط "بكذبة" الدور المعطى للرأي العام، في حين تُــــرسم السياسات بعيداً عن اي معطى قيمي، ويعمل الاعلام والتواصل على ترجمة هذا الواقع لما يخدم مصلحة الاقوى ولو لم يكن هذا الاقوى صاحب حق، او مصلحة الاكذب ولو تمكن من غشّ رأي عام عريض طويلاً، او لمصلحة من يستطيع بشكلٍ من الاشكال ان "يُشيطن" اخصامه لخدمته فقط، ولو تدمّر وطن كامل في سبيل خدمته؛ اما الاستثناء الاكيد اما سقوط القيم، فهو عنصر الثبات عليها، والشموخ في هذا الثبات (والذي سوف نتناوله في خاتمة الافتتاحية هذه للدلالة على امكانات انقاذ القيم عبر المثل الحية)
نعرف في لبنان تجارب حية، تؤكد صوابية هذه الواقعات، نكتفي بجزء منها مسيحي الطابع. حدث ذلك قبل عقدين ونيف من الزمن، اي في العام 1986 حين تمكّن شاب خرج من قلب المعاناة التي تكثفت بعد اغتيال الرئيس بشير الجميل، وساهمت سياسات قادته الفاشلة بعد ذلك في صناعتها، وأسهمت قسوة الدعايات المعادية في مراكمتها على اكتافه وصحبه.. تمكّن هذا الشاب بل نقول تـــــجرّأ، على مواجهة الرئيس الراحل حافظ الاسد عبر اسقاط مشروعه الامثل للسيطرة على لبنان والمعروف في حينه ب"الاتفاق الثلاثي"، بالاخص ان الرئيس السوري كان قد سوّق لهذا الاتفاق دولياً تحت عنوان انه صانع "السلام السوري في لبنان".
سقط الاتفاق الثلاثي على بحر من الدماء، وبدأت مرحلة سمير جعجع في المناطق الخارجة عن سيطرة سوريا وسطوة جيشها، والممتدة من الضاحية الشرقية لمدينة بيروت وصولاً الى جسر المدفون في شمال لبنان وحتى مشارف جبل صنين شرقاً.
وضع جعجع حـــــــــدّاً موضوعياً لزمن الانهيارات المسيحية التي تلت اغتيال الرئيس بشير الجميل، لكنّه انتقل الى خطة بديلة تتلاءم مع واقع لبناني غير متماسك وهجين امام تعقيدات اللعبة الدولية، فكان ان قطع علاقات الميليشيا المسيحية مع اسرائيل نهائياً، وانفتح في المقابل على منظمة التحرير الفلسطينية برئاسة ياسر عرفات الذي اصبح خارج لبنان، كما انفتح على العراق وعلى الكويت ومصر والسعودية وكل الدول المعترضة على وجود جيش النظام السوري في لبنان. وعمد في موازاة ذلك، على تهدئة الجبهات الداخلية منعاً لحروب ومعارك لا طائل منها الا موت متبادل، وعمد ايضاً الى تنشئة وبناء وتنظيم قوة عسكرية هائلة تمكنت في زمن قياسي لم يتعدَّ السنتين ان تصبح الاكثر تنظيماً وقوة على مساحة لبنان وبين ميليشياته وجيوشه، وفي اقل من سنة عمد على تأطير اجتماعي وصحّي وانمائي واعلامي ومالي وضرائبي، متعد المداخيل والتحالفات ومصادر الاسلحة لتبقى قواته سيدة قرارها، ولا تصبح باي شكل رهينة لارادة خارجية؛ جعل جعجع من القوات اللبنانية جيشاً ومشروعاً صالحاً ان يصرف في اطار نواة حقيقية لدولة لبنانية ذات مقومات مستدامة.. وجلس ينتظر المفترق الدولي الملائم علّه يتمكن من استثماره لصالح القضية اللبنانية.
استمرّت هذه الهدنة لمدة سنتين، من العام 1986 في كانون الثاني ولغاية ايلول من العام 1988
وحدث ان انتهى عهد الجميل وبدأ عهد قائد الجيش في حينه العماد ميشال عون الذي عيّنه الحميّل رئيساً للحكومة الانتقالية العسكرية، وبدأت مع ذلك العهد مرحلة حروب السيطرة على الواقع المسيحي من جديد. في 14 شباط 1989 ضرب عون القوات اللبنانية تحت عنوان غير مقنع وانتقل الى المطالبة بمداخيل ومنع الضرائب، وفي شباط من العام نفسه ولما فشل في تطبيق هذه السياسات على باقي المناطق غير الخاضعة لسلطته، ولما لم يستجب الاسد لرغبته ولم يدعمه في الترشح لرئاسة الجمهورية، اعلن حرب التحرير ضد سوريا في لبنان في آذار من العام نفسه، ومن دون اي سابق انذار او تحذير او تحضير، فانطلقت عمليات عسكرية تافهة اقتصرت على قصف مدفعي عنيف دمّر ما دمّر عبثياً من دون تحرير ومن دون طائل.
انتهى كل شيء الى تدخل دولي نقل النواب اللبنانيين الى مدينة الطائف السعودية حيث اعتمدت احدى صيغ التعديلات الدستورية تحت عنوان اتفاق الطائف، كمخرج من اتون الحرب بين اللبنانيين، واتفق على ان يتم انتخاب المرحوم رينيه معوض رئيساً للجمهورية.
رفض عون، اغتيل معوّض، انتخب الياس الهراوي، رفض عون من جديد وطالب بإسقاط الطائف وانتقل الى مهاجمة البطريركية المارونية والقوات اللبنانية ليصرّ بعد حصار عليه الى ضرورة توحيد البندقية والغاء القوات وضمّها تحت لوائه، اندلعت حرب جديدة بين عون والقوات انتهت الى لا شيء. وتلاها اصرار عون على رفض الطائف فدخول جيش الاسد الذي احترف الانتظار، الى مناطق سيطرة عون وبرعاية دولية على اثر مشاركة الاسد في حرب تحرير الكويت.
انتهى المشهد عند مغادرة عون بعبدا تاركاً وراءه اشلاء جيش ودولة، وتلا ذلك سيطرة سورية كاملة على لبنان وبدء المرحلة النهائية باتجاه الغاء سمير جعجع عدو الاسد اللدود، الذي أُدخل المعتقل عبر محاكمات ملفقة على الطريقة النازية.
رفض العماد عون الطائف ليعود ويمارس السلطة بموجبه بعد خمس عشرة سنة من النفي ويتصالح مع ألدّ أعدائه "المنظورين" وكأن شيئاً لم يكن، وبعدما ساهم في محاولات تشويه صورة سمير جعجع نتيجة فشله في القضاء عليه، وساعده في ذلك مهندسو الدعاية الاستخباراتية في اعتى الانظمة الديكتاتورية في العالم الحديث.
ملاحظة في الاساس: يحظى سمير جعجع اليوم -وبعد خروجه من المعتقل- على تأييد جماهيري منقطع النظير في صفوف الاجيال الشبابية فتيات وشبان مسيحيين ومن طوائف اخرى، والتي ولدت في العقدين الاخيرين من القرن العشرين من ثانويين وجامعيين، او متدرجين في اعمالهم
عمدنا الى هذه الاستفاضة، لنؤكد ان الثبات والصمود هو وحده الكفيل بمنع انهيار القيم ولو آلت الى السقوط، لان رجالاً "مُثُل" قد يصلحون على التأكيد ان الموت لاجل قضية نبيلة افضل من الهروب، او يصلحون ليكونوا مُثلاً لشعوب او جماعات تنتظر دعماً خارجياً ولا تحاول بنفسها وقبل اي شيء، ان تقف على اقدامها ليأتي هذا الدعم اليها، تماماً كما فعل المسيحيون لبنان في الزمن الصعب وكما لـــم يفعل مسيحيو العراق حتى اليوم وفي ازمنة مماثلة..
وما كانت هذه الاستفاضة لولا الضرورات االاساسية للجزم ان الدور الاساسي والشخصي للقائد والمسؤول هو الذي يصنع تاريخ الشعوب او يساهم في اضاعة التاريخ، لتأكيد على امرين:
أولاً تجربة المسيحيين في السنوات الاخيرة، تجزم ان التكرار ممكن طالما الغايات والاهداف ذاتها، فالتجربة الاولى انتهت بعنوان "علي وعلى اعدائي" ليضع الاسد الاب فنجله يده على لبنان، ويساهم في منعاعادة احياء بنة تحتية دولاتية لا نزال ندفع ثمنها الى اليوم، والتجربة الثانية قد تتجه الى خواتيم مشابهة في المصلحة الشخصية لدى البعض والاصرار على الشموخ لدى البعض الآخر، وقد تنتهي وفق نمطية "عليّ وعلى اعدائي" اذا ما سقط الجموح الشخصاني من جديد، ولو انها لن تتمكن هذه المرّة من تجيير الحقد المجنون الى اعدائها هذه المرة لانها اعداءها غير المنظورين هم حلفاؤها وداعموها.
وثانياً لتتأكد اهمية فشل التجارب المفصومة لدى الطوائف، ولنتأكد انّ تجربة وطنية يتيمة اثبتت نجاحها مع بدايات القرن الحالي هي نموذج 14 آذار العابر للطوائف، بالرغم من بعض تشوّهات اصابته وتصيبه يومياً من بعض اهله الطامعين على اكبر من حجمهم، او بعض اهله الحاقدين دفيناً على الاقوياء فيه.
القيم هي نحن، فإن سقطنا سقطت، لا تنظروا من النافذة ولا تنتظروا... لن يأتي احد!
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك