الذين قالوا في مناسبات سابقة إنّ الانتخابات تقنيّةٌ من تقنيّات الديمقراطيّة لكنّها ليست الديمقراطيّة، يجدون اليوم جبلاً من الوقائع العربيّة التي تعزّز حجّتهم.
فبعد الجزائر، حيث جُدّد لعبد العزيز بوتفليقة المريض والمتداعي والمسنّ بأكثر من 80 في المئة من المقترعين، ستُجرى انتخابات في ثلاثة من بلدان المشرق: لبنان والعراق ومصر. حتّى سوريّا يُفترض أيضاً أن تُجرى فيها انتخابات يُتوقّع، في حال حصولها، أن "تجدّد البيعة" لبشّار الأسد وأجهزته.
هذا هو اللامعقول بعينه الذي يتمّ تنسيبه إلى المعقوليّة الديمقراطيّة. بل يكاد المراقب أن يقول إنّ الموجة الانتخابيّة التي يعيشها العرب راهناً لا تعدو كونها محطّة متقدّمة من محطّات حروبهم الأهليّة. فإذا كانت الديمقراطيّة تقود النزاعات إلى المؤسّسات الدستوريّة فتضبطها على إيقاع سلميّ، فتلك الموجة الانتخابيّة تفضي إلى تصعيد مؤكّد في التنازع الأهليّ المفتوح. وإذا كانت الديمقراطيّة تُحلّ الهويّة المواطنيّة للأفراد في المحلّ الأوّل، فتلك الموجة الانتخابيّة ترفع عالياً لواء الهويّات التجمعيّة للجماعات وتستنطق أكثريّاتها العدديّة.
ففي العراق تتوازى الانتخابات مع حرب تُشنّ على محافظة الأنبار السنّيّة، التي لن تُجرى فيها انتخابات، فيما تكسب "داعش" موقعاً يتّسع يوماً بعد يوم. ولن يكون تصدّر نوري المالكي مرّة أخرى إلاّ سبباً لمزيد من اشتعال الجبهات السنّيّة - الشيعيّة، وربّما العربيّة - الكرديّة.
وفي مصر، لن يكون إيصال عبد الفتّاح السيسي إلى رئاسة الجمهوريّة، وتنصيبه زعيماً مهدويّاً مخلّصاً، إلاّ الوجه الآخر لكبت الحياة السياسيّة المصريّة. هذا ما ينمّ عنه، على الأقلّ، مسلسل بدأ بالقمع الذي شهدته رابعة العدويّة وانتهى بإخراج الإخوان المسلمين كلّيّاً من السياسة، مروراً بأحكام الإعدام التي نُفّذت والتي قد تُنفّذ.
أمّا في لبنان، فيلوح التعثّر الذي يرافق الانتخابات الرئاسيّة الموعودة، والطلب على "رئيس قويّ"، مرآة لحدّة التنازع الأهليّ في البلد، وهو ما لا يضبط انفجارَه المفتوح على مستوى وطنيّ إلاّ تسويات إقليميّة ورغبات دوليّة. وإذا كان اللبنانيّون محمولين على الإذعان لتلك التسويات والرغبات، فإنّ قواهم السياسيّة - الطائفيّة لا تكتم، في الغرف المغلقة، براءتها منها وبرمها بها.
صحيح أنّ انفجار الموجة الانتخابيّة وما قد تحمله من نتائج وثيقا الصلة برغبة في "الاستقرار". وأمر كهذا ليس بعيداً عن النهايات غير السعيدة التي أفضت إليها ثورات "الربيع العربيّ". لكنّ الصحيح أيضاً أنّ نظريّة "الاستقرار" هذه لا تجد ما يمسخها أكثر ممّا قد تفعل انتخاباتٌ تُجرى في سوريّا. فهنا ستكون البراميل المقترع الأوّل بالنيابة عن سكّان يُقتلون وينزحون.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك