ثمّة ما هو "غير ايرانيّ" في "حزب الله" اللبنانيّ العامل حالياً على الأراضي السورية، والمصدّر لـ"السوبرمانات" (بالعربية "أشرف الناس") الصناديد المكتسحين القرى السوريّة، والمنتصرين "الهياً" و"ملائكياً" (وعلمانياً، لم لا؟!) عليها في القصير وغيرها.
هذا العنصر "غير الايراني"، و"العربي"، يرد الى الحزب من المرحلة التي نشأ فيها، الثمانينيات من القرن الماضي. انه عنصر لا حاجة للتنقيب عليه في خفايا التراث ومتاهاته لاقتفاء أثره، ولا للاطالة في باب المقارنات بين هذا الحزب وما يعادله هنا أو هناك لتفسيره. انه عنصر يرده من الثمانينيات، من مرحلة انتشار "الرسوم المتحرّكة" المدبلجة باللغة العربية، وانتشار التلفزيون الملوّن بشكل اندثر فيه ما قبله. المجال الخياليّ الذي يتحرّك به "حزب الله" هو ذاك المجال المصوّر والناطق المنبعث من "سوبرمان" و"غرانديزر" و"جونكر". لا يكفي "البطل" من "حزب الله" أن يكون بطلاً فحسب، يريد أن يكون "البطل الجبّار"، بالصوت والصورة، وبالألوان. لا يمكن البحث جدياً في التركيبة الذهنية والغيبية للحزب دون أخذ هذا المعطى "غير الجدي" على محمل الجد.
"حزب الله" هو حزب متأثّر بـ"سوبرمان" أكثر بكثير من تأثّره بالامام الخميني والثورة الايرانية، لانه لو كان تأثّر جديّاً بالثورة الايرانية لكان انقسم بانقساماتها، أو على الأقل كانت للتيارات الأساسية الخارجة من التركة نفسها في ايران انعكاساتها المختلفة على "حزب الله" وبيئته، تماماً مثلما كان لتصارع التيارات المختلفة في الحزب البلشفي في العشرينيات والثلاثينيات انعكاسها في كافة أحزاب المنظومة الشيوعية. لكن الواقع يفيدنا بأنّه باستثناء الطاعة للولي الفقيه وميثولوجيا الشهادة لم يقتبس الحزب شيئاً جديّاً من ايران الاسلامية. حتى هذه، فقد خلطها بمرجعيته التأسيسية: الأبطال الجبابرة في الصور المتحرّكة المدبلجة الى العربية كما شاعت تحديداً بين جيل الناشئة وأبعد من الناشئة في ثمانينيات القرن الماضي. جونكور، غرندايزر، سوبرمان .. حسن نصر الله.
في مرحلته "السورية" كما في مراحله السابقة يريد الحزب ان يوحي بأن قادر على تحويل هذه الصور المتحرّكة بما تمثله من صراع حاد بين الخير المطلق والشر المطلق الى واقع حي وملتهب، واقع يطهّرُ فيه الدمُ الدم.
لكن في هذه المرحلة، وأكثر من قبلها بما لا يقاس، تبرز حاجة الى الافلات من هذه الحيلة. يكون ذلك بعدم الذهاب بعيداً في تقدير اثر "حزب الله" في مسار الصراع بسوريا من جهة ترجيحه الكفّة أو لا. من هذه الناحية، وأيّاً كانت الأهمية اللوجستية أو المعنوية لمشاركة الحزب لا سيما في القصير، الا ان هذه المشاركة ستبقى في المسار الاجمالي للصراع السوري، صفراً على اليمين أو الشمال لا فرق. لن تقدّم ولن تؤخّر كثيراً، اذا ما تعلّق الأمر بالترجيح بين النظام البعثي الأقلوي والنسيج الأكثري الثائر. لكنها قد تبدّل وتغيّر اذا ما تعلّق الأمر بتوسيع نطاق الصراع، فضلاً عن تجذير طابعه المذهبي، ورفع معدّله الدمويّ.
مع ذلك، فاذا كان "حزب الله" يمثّل كابوساً لكل من لا تنطلي عليه أكذوبة أنه حزب مقاوم، فان الانتهاء من هذا الكابوس لن يكون أبداً بسهولة ويسر انهزام الشرّ واضمحلاله في الدقائق الأخيرة من أي موقعة لـ"سوبرمان" أو "جونكر" أو "غرندايزر"، فالواقع ليس كالصور المتحرّكة.
>.
ومع هذا السيناريو، أثبت "الحزب" توقعات الخبراء. إنه سيبحث عن المبرّرات "المشروعة" للدخول من الباب العريض إلى الساحة السورية.
فالمقاومة امتياز أتاح، ويتيح، له الإنجازات السياسية والعسكرية والأمنية الكبرى في لبنان.
وهو اليوم ينقل النموذج إلى سوريا، حيث الإنجازات العسكرية تحصل بدعم مباشر من "الحزب"، وأبرزها السيطرة على مدينة القُصير ذات الأهمية الاستراتيجية.
وفيما كان السياسيون غارقين في تفحُّص جنس الملائكة في ساحة النجمة خلال الأسبوع الفائت، كان "الحزب" يحشد مقاتليه، ويجمعهم في الهرمل، ثم يدفعهم إلى الداخل السوري. ولاحظ سكان المنطقة هذا التوغل في الأيام الثلاثة الأخيرة أكثر من أي وقت مضى.
فغطاء "الجهاد ضد إسرائيل" سيبرِّر تحويل البقعة المجاورة للحدود السورية - اللبنانية، بكاملها، ساحة عمل واحدة لـ"حزب الله" وحليفه الأسد. وسيزداد "الحزب" انغماساً في الحرب الأهلية السورية، إذ يصعب الفصل بين عمله في الجولان وعمله في الداخل.
وزيارة مفتي سوريا الشيخ أحمد حسون لموقع "حزب الله" الجهادي في مليتا مدروسة التوقيت: مفتي السنّة السوريين يبارك الدور المقاوم لـ"حزب الله"... في لبنان وسوريا. ومن البديهي أن ترفض الغالبية السنّية في البلدين هذه المباركة، لكن "الحزب" يتشوَّق إلى عمامة سنّية في هذه اللحظات.
ففي القُصير، مثلاً، صراع بين مجاهدي "حزب الله" ومجاهدي الشيخ سالم الرافعي وإخوانهم السنَّة. وفي الجانبين يراق الدم اللبناني "المجاهد" على أرض بلاد الشام، والخوف من أن يسيل، عبر ما تبقى من شريط حدودي، إلى الداخل اللبناني الملتهب.
وفي النتيجة، قد تقع أحداث ذات طابع "مقاوَمي" في الجولان، وقد لا تقع. لكنّ ورقة الجولان ستكون في جيب "الحزب"، واستعمالها رهن بالحاجة إليها.
فـ"حزب الله" متوقف أساساً عن أي عمل عسكري في الجنوب منذ آب 2006 وصدور القرار 1701، فهل يعود إلى المواجهة من الباب السوري فيما هو يقفل الباب اللبناني؟
ولكن يمكن التساؤل، انطلاقاً من "تطويب" الجولان وتلال كفرشوبا ومزارع شبعا بقعة عمل واحدة: إذا وقعت مواجهة حدودية، فكيف ستتداخل الأحداث بين لبنان وسوريا، وكيف سيردّ الإسرائيليون، وما دور قوات الأمم المتحدة بشقيها: "اليونيفيل" و"الأندوف"، حيث الخلاف على الترسيم في المزارع سيزيد التعقيدات ويضيّع المسؤوليات؟
وانطلاقاً من دور "الحزب"، والدعم الهائل بالعتاد والعديد والخبرات لنظام الرئيس الأسد من طهران وبغداد وموسكو، ترتسم 3 مناطق نفوذ قوية، ويجري تدعيم متاريسها وتأمين الترابط بينها:
1 - المنطقة الساحلية.
2 - المنطقة الوسطى: بقعة القُصَير - حمص - ريف دمشق.
3 - المنطقة الجنوبية: جبل الشيخ والجولان وصولاً إلى مشارف الحدود مع الأردن.
وانطلاقاً من هذه المرتكزات الثلاثة، يتمدّد "حزب الله" وحليفه من الجولان شرقاً، ويتوسّع شمالاً عبر شبكة الطرق الدولية التي يحرص على تأمينها، وصولاً إلى العاصمة وحمص فطرطوس.
إنه تماماً خط الحدود اللبنانية - السورية ولكن من الجانب السوري. والتأمّل في الخريطة، يوحي بأن لهذا الخط معناه، لا العسكري فحسب، بل الديموغرافي أيضاً.
لقد رفع الرئيس حافظ الأسد شعار "شعب واحد في دولتين"، لكنه جعل لبنان وسوريا دولة واحدة "في سوريا فقط"، ولها مقاومة واحدة "في لبنان فقط"... وبلا شعب لا هنا ولا هناك!
وأما اليوم، فلا دولة لا في لبنان ولا في سوريا. وتبرز ملامح أكثر من "شعب" هنا وهناك. وعلى رغم ذلك، هناك "مقاومة واحدة" للجميع وعنهم... وعليهم، في البلدين.
مقاومة تتأهب هناك في الجولان، لكن حقلها الفعلي حالياً هو هنا في القُصَير...مقاومة تكمن هناك في المزارع، لكن حقلها الفعلي حالياً هو هنا... في بيروت!
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك